أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لم يكن من منهج التأليف أن تختصر الكتب إلى ما يشبه الرمز؛ فتحتم أن تشحذ القرائح؛ لتفهم هذا المدون في الكتب، وأن تنقده بدلا من أن تحفظه، لأن الغرض الأسمى هو أن نفهم، وننقد، ونرجح، ثم نبني حياتنا العلمية؛ وأما الحفظ فلم يكن غاية؛ ولكنه وسيلة لعلةٍ زالت، وبزوال هذه العلة يزول معلومها؛ وهكذا كان تاريخ الأجيال: جمع وحشد، ثم درس ونقد؛ ولست أرضى أيا من المنهجين في الوقت الحاضر؛ لأن المنهج الأول القديم بإطلاقه: جمود، واستنفاد للطاقة في أكثر من نطاقها.. كما أن المنهج الثاني الجديد بإطلاقه: انفلات، وتفريط في الطاقة في بعض نطاقها؛ فلكل فنٍ من هذه المعارف أصول وقواعد لا بد من حفظها؛ فأملي أن مناهجنا التعليمية ستعيد النظر فيما يستحث الطلاب على الحفظ والفكر معا؛ فقد علمنا بالتجربة من واقع كتب التراجم: أن الذاكرة تنمو بالحفظ، وأن النتاج المشرف إنما ينبثق من طاقتي الحفظ والفكر معا؛ ففكر بلا حفظ عقيم، وإدمان حفظ بلا إشعاع فكرٍ جمود.. ومن أهم إشراقات الفكر الإفادة من المنطق الذي هدى شرعنا المطهر إليه، وأضرب المثال ببيان صفة المنقطع المهزوم؛ وذلك من سياق انقطاع عدو الله فرعون لعنه الله، ولعن من كفر معه؛ فقد أرسل الله موسى مع أخيه هارون (عليهما، وعلى نبينا محمد، وعلى كافة أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه وبركاته) إلى فرعون بقوله سبحانه وتعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (16) سورة الشعراء؛ وحينئذٍ {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ} (23-25) سورة الشعراء
قال أبو عبدالرحمن: قول عدو الله {أَلَا تَسْتَمِعُونَ} سورة الشعراء 25، سخرية؛ والعفن المنتن يعلم أنه لم يخلق السماوات والأرض؛ وكيف يكون ذلك وهو لم يخلق إلا بعد خلقهما بقرون كثيرة؛ وكيف يكون العدم علة للوجود؛ وكيف يكون الحادث توا خالقا لما سبقه بقرون؛ فأخرسه موسى عليه السلام إذ {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} (26-27) سورة الشعراء؛ فههنا انقطعت حجته؛ فعاد إلى سنة العربجيين بالسباب؛ وذلك بقوله {لمجنون}؛ فحجزه موسى عليه السلام في أقماع السمسم بقوله: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} (28-29) سورة الشعراء؛ فههنا انقطع النتن عن الحجة، وعاد للتهديد والتخويف: {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}.. وفي موضع آخر أخبر الله عن النتن بقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (38) سورة القصص؛ فهو باستخفافه قومه الكفرة يزعم أنه خالق كل شيءٍ وهو لم تقذف به أمه من رحمها إلا بعد تقدير الله خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وبعد خلقهما بقرون كثيرة، وما قدر الأغبياء ربهم حق قدره؛ إذ أرادوا الاطلاع على ربهم في بضعة أمتار؛ والله سبحانه وتعالى يسع كونه كله، ولا يسعه شيء جل جلاله؛ وفي مأثور العوام قال هامان: (على هامان يا فرعون).. يريد: أتريد أن تضحك علي وتستخف بعقلي؟!.. وأبين ههنا أن المنطق جزء من نظرية المعرفة والعلم؛ فالنتيجة تسمى قضية، وكل واحدة من المقدمات تسمى قضية، والبرهان هو جميع المقدمات؛ والمحصل في كل السياق مدلول البرهان وليس هو البرهان نفسه.. وقد تكون نتيجة برهانٍ مقدمة في سياق برهان آخر، وتوصف النتيجة بأنها قضية مؤيدة بصيغة اسم المفعول، وكل واحدة من المقدمات تسمى بينة.. وإلى لقاءٍ في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.