على بعد همسة من الشوق، وبالقرب من لهفة الحنين، كانوا هنا، وغادروا كما غيم الربيع، لكن الفرق أن هاماتهم تركت آثارها، فنما الشوقُ على جدار اللغة، هذه هي تجليات القلب حين يعانق القلب، تصمت الشفاه عن الهمس، تاركةً بحراً مائجاً من الظلال الوارفة في سمائنا الملبدة بكل ما هو جميل.. وحزين.
بالأمس حط رحال وفد من الروائيين العرب من المشاركين في ملتقى الرواية العربية الأول، في ربوع قلقيلية، وهم قامات وأقلام لها صولاتها، تؤنس السطور كلما فاضت أحبارها، الوفد الذي صهر الحدود الفاصلة فأتى إلينا عربياً (خالصاً)..!! زار محافظة قلقيلية، وعايش هموم حياة الموطن الفلسطيني الذي يتجذر في أرضه فيسقيها من فؤاده عرقاً باذخاً، عرقاً رقراقاً.. فتأبى ذرات التراب الحبلى بالحنين.. إلا أن تطرح الليمون والجوافا.. وما اشتهت الأنفس.. وألفت الروح.
هنا حيثُ الحدود الفاصلة، قبلةٌ على جذع شجرة المشمش في أرض عبد السلام غرب المدينة..
وهناك لمسة أنيقة على غصن زيتونة غرسها طفلٌ في مدرسة الصمود بعزون عتمة الباقية..
أما في خيمة الأسرى، فقد تركوا دمعة حارقة، نعم هي دمعة الروائي السودني «حمور زيادة».
كل هذه الأيقونات الفريدة.. معلقة في سماء قلقيلية على بعد قُبلة تحت الشمس بقليل، أو ما بعد الفضاء اللغوي الذي نعرفه، ربما تكون لغتنا ركيكة إذا ما حاولنا إعادة صياغة مدلولات تلك الزيارة بأبعادها المختلفة، وبتجلياتها الرقيقة، لأنها أكدت أن الملح والماء يصنعان نصراً حتى لو كان بأمعاء خاوية.
المثقف العربي عندما يعايش الحالة بعيداً عن جوهرها، ويلقي بذاته المبدعة بعيداً عن الشعارات الزائفة التي يتداولها الإعلام العربي في السجال الدائر بين (الإسناد، والتطبيع). هنا تسقط كلُ جمل الإنشاء، أمام حقيقة ساطعة، لأنه عندما تكون المواجهة حقيقية بين المحتل والشعب الفلسطيني تتجلى حقائق الوحدة بدلاً من زيف الانقسام.
في الحالة الفلسطينية.. هناك ثابتٌ وحيدٌ هو الوطن الممتد من عهد كنعان إلى عهد هذا الإنسان الصامد منذ ذلك التاريخ وحتى تسع وستين عاماً من الموت.
تسعٌ وستون عاماً من اللجوء لم تغيب الذاكرة الجمعية للشعب الذي أريد له أن يكون خارج المكان مشرداً خلف الحدود الفاصلة.
هذا المكان الممتلئ بقدسية التاريخ وحتمية الانتصار المؤجل.. الكتاب العرب رأوا حقائق شاسعة انتابها بعض الضبابية عندما كانوا هناك، لأنهم لامسوا الحقيقة عن قرب، وأنا على يقين بأن ما عاينوه ولامسوه من حقائق.. سيكون الرد الأمثل على أولئك الذين أبحروا بعيداً عن مينائنا الأزلي، وذلك من خلال قلائد أدبية أبديه خالدة، لأن حتمية الحقيقة أبقى من هوائية الشعارات.
ولأننا متيقنون من عدالة ما نصبو إليه فإن مقولات التطبيع التي ستخرُ واقعة في ساحات السجال اليومي بين الإرادة الشعبية الجامعة، وبين مفردات السياسة التي تأتي بين قوسين (ربح، وخسارة). وسط هذا السجال هناك حق راسخ وتسع وستون موتاً من النكبة، وأمعاء اقتربت من يومها الثلاثين من الجوع.. تنتظرُ من يمسح حزنها، ويطبب جرحاً أوغل المحتل فيها.
على بعد قبلة.. فاصلة رواية.. ليست رواية الفلسطيني وحده، وإنما هي رواية الكل العربي ضمن المسؤولية الجمعية وما يتبعها من مسؤوليات أخرى إنسانية.
على بعد قبلة.. فاصلة، دهاء يريد للشفاه إلا تلتحم مع الوردة، أنتم هناك في فضاءاتكم ضمن واقع لا يمكن تجاهله، لكنني على ثقة حتمية أن النصر نصنعه معاً رغم الحدود والأسلاك الفاصلة.
في هذه العجالة المستظلة بشذى أزهار الليمون في بيارات قلقيلية، والممزوجة مع مشاعر الأصالة للزائرين (الأهل)، لست أحاول استدرار عطف أحد... إنما هي الكلمات وحدها تنطلق من إحساس لا نعاينه كل يوم. زيارتكم تركت أثراً لا يمحى، وقبلتكم تركت أثاراً أعظم من أن تنسى. فإلى اللقاء.
قبلة، وفاصلة..
** **
- فلسطين