د. محمد بن إبراهيم الملحم
تعتبر جودة التعليم المساهم الأهم في التنمية الاقتصادية للدول المتقدمة ويأتي الاستثمار في الابتكار innovation على رأس الهرم في هذا السياق ويتلوه الإبداع في المحاكاة imitation ومن أمثلة الأول تفوق اليابان من خلال ابتكاراتها في مختلف المجالات الصناعية ابتداء من دورها في الثورة الصناعية في الصناعات الثقيلة كالسيارات والمعدات والدقيقة كالآلات والمقاييس وانتهاء بثورة التكنولوجيا الرقمية والروبوت في يومنا الحالي، وتأتي الابتكارات الأمريكية والأوروبية في الإنترنت وخدماتها سواء الهندسية أو البرمجية كمثال آخر ومعاصر صريح الدلالة على دور الابتكار في الاقتصاد، وهو ليس سوى امتداد تاريخي طبعي لدور الابتكار والاختراع الاقتصادي المهم فقد شهدت فترة الاقتصاد الزراعي والرعي في القرن التاسع عشر حركة بطيئة لاقتصاديات الدول بينما فجرت الثورة المعرفية أواخر نفس القرن وبدايات القرن العشرين ثورة صناعية عظيمة وظهرت بوادر اغتنام الدول لنواتج المعرفة على مظاهر القوة لديها من خلال تسخيرها لآلة الحرب متوجة ذلك بالقنبلة النووية ثم وجهت هذه الطاقة بعد الحرب العالمية نحو الاقتصاد وتوالت بابتكارات الرفاهية الإنسانية وتصدير المعرفة عبر القارات، وكل ذلك كان نتاج البحث العلمي في الجامعات والمراكز البحثية في كبرى الشركات والمؤسسات الحكومية.
النوع الثاني تجلى في محاكاة الإبداع وهو أمر بدأت به اليابان دخولها النادي الاقتصادي العالمي ثم تبعتها النمور الآسيوية الآخرى مثل كوريا والصين والهند حيث اعتمدت اقتصاديات هذه الدول بشكل كبير على المحاكاة الصناعية وأسهم هذا التفوق في تنمية اقتصادياتها بشكل ملحوظ، وتوالت اتجاهات المحاكاة في أنماط مختلفة وأدوار متباينة ليس هذا محل تفصيلها لكنها جميعا كانت تتمحور حول نظرية رأس المال البشري والاستثمار فيه كمياً ونوعياً معاً. وكل ما سبق هو الصورة المنعكسة في مرآة الاقتصاد لأثر التعليم القائم على الجودة النوعية، وأبرز قطاع من قطاعات التعليم مساهم في ذلك هو التعليم العالي بالنسبة لاقتصاديات الابتكار والتعليم الثانوي والمهني بالنسبة لاقتصاديات المحاكاة. واليوم فإن الدول المتسمة بالمرونة الاقتصادية والراغبة اللحاق بأحد هاتين المجموعتين كهدف تنموي يجب أن تنظر في الموارد المتوفرة لديها والفرص المتاحة أمامها من وجهة نظر اقتصادية بحتة ثم تحدد أولوياتها التعليمية بناء على ذلك، وربما اختارت أن تسلك المسلكين معاً لو كانت لديها سعة استيعابية كافية لذلك.
المهم في الأمر أن الجودة التعليمية هي محور الارتكاز لتحقيق النجاح في تبني أي النموذجين، ولا يمكن لها أن تتحقق دون إستراتيجية واضحة المعالم وصريحة المبادئ. مؤشرات الجودة التعليمية تتباين بين الباحثين ولكنها تجمع فيما بينها على أن الجودة التعليمية سبب رئيس للتفوق الاقتصادي، وتؤكد أن التعليم الأساسي (الابتدائي والمتوسط) وإن لم يكن هو المساهم المباشر في التنمية (حيث قصب السبق للتعليم العالي والمهني) إلا أنه مساهم حتمي لا يمكن الفرار منه باعتباره مؤسساً لهذين التعليمين ومؤثراً فيهما بشكل بدهي. كل هذه الاعتبارات هي ما يرد تلقائياً لدى أي شخص يقيم دور التعليم في الاقتصاد ولكن هناك اعتبارات متنوعة عند بحث الموضوع من وجهة نظر دولية مقارنة لابد أن يتأملها كل منا لنتفهم عمق هذه العلاقة وأبعادها المختلفة وهو ما سأحاول توضيح أطراف منه في المقالة القادمة حيث سأشرح مثلاً رأياً وجيهاً لباحثين في اقتصاديات التعليم من هارفارد حول كيف تتم خسارة العقول المبتكرة.