د. فوزية البكر
عرض لنا برنامج الصدمة الرمضاني ليلة السبت الموافق 15 رمضان 1438 مواقف تمثيلية مبنية على فكرة إساءة الأبناء أو الأحفاد لكبير السن العاجز في الطريق العام ومراقبة ردود الفعل الاجتماعية بخصوص ذلك والتي جاءت كما قد نتوقع من مجتمعات شرقية ومسلمة متراحمة يمثل فيها الوفاء والعناية بالكبار من الوالدين أهمية قصوي في النظام الدين والقيمي العام ويذكرني ذلك بملاحظة ألقتها إحدى الباحثات في محاضرة عامة قدمت في مركز الملك سلمان الاجتماعي قبل عام حول التحولات الاقتصادية والاجتماعية النفسية للمتقاعدات وكبيرات السن وذكرت إحدى الحاضرات كيف أنها كانت في المستشفى برفقة والدتها المقعدة لمراجعة طبيب وفجاءة بدأت الحديث مع والدتها، وإذا بجموع كبيرة من الناس تتجمع للومها على رفع صوتها بهذا الشكل عند الحديث مع والدتها ولم يعرفوا أنها كانت تفعل ذلك بسبب الضعف الشديد في سمع الوالدة!
أكدت الإحصاءات الصادرة من المؤسسة العامة للإحصاء ارتفاع معدل متوسط العمر بين السعوديين إلى 75 سنة للرجال و 78 سنة للنساء بسبب تحسن نوعية الحياة وتقدم الخدمات الصحية إضافة إلى ما أشارت له منظمة الصحة العالمية من مما أسمته ( شيخوخة العالم ) نظرا للارتفاع المطرد في أعداد كبار السن في المجتمعات المختلفة حتى وصلت التوقعات أنه وبحلول العام 2050 سيكون أعداد الشباب وكبار السن في العالم أكثر من أعداد الأطفال وبالنسبة للملكة تحديدا فالتوقعات تشير إلى أنه وبحلول ذلك العام ستصل نسبة كبار السن إلى أكثر من 18 % من أفراد المجتمع.
هذا يعني ببساطة ضرورة تغيير السياسات الصحية وخاصة في البلدان النامية حيث ستحتل رعاية المسنين وستكلف الكثير وبشكل متزايد من ميزانيات وزارات الصحة في العالم ولذا فالنظريات العاملة في مجال الشيخوخة تؤكد على أهمية المناخ الاجتماعي والثقافي لكل مجتمع يوجد به مسنون فإحدى هذه النظريات وتسمى نظرية فك الارتباط أو نظرية الانسحاب في بعض المراجع العلمية ترى بأن التقدم في السن يتضمن بالضرورة تقليص النشاط المهني والاجتماعي للمسن بحيث يؤدي به إلى الانسحاب التدريجي مما يتيح للفئات الشابة أن تحتل مكانة مهنياً واجتماعياً وقد أثارت هذه النظرية انتقادات شديدة حيث إن الهرم لا يعني بالضرورة المرض أو عدم القدرة على الإبداع إذ ظهرت النظريات الحديثة لتؤكد على أن العقل البشري يستمر في النمو والتحول طالما تعرض للمثيرات المحفزة ما يدفع بلدان كثيرة إلى عدم إقرار أي نظام تقاعدي لبعض المهن مثل الباحثين والعلماء وأساتذة الجامعات والأطباء والكتاب والرسامين الخ من المهن التي تتطلب خبرات تراكمية و إبداعية.
يقابل نظرية الانسحاب نظرية النشاط التي تقوم على الجمع بين الاستمرارية في عملية التنشئة الاجتماعية وبين مفهوم الحياة في علم نفس النمو وذلك لتستمر أنماط السلوك في مراحل العمر المختلفة وبهذا يصبح النظر للشيخوخة كمرحلة لها احتياجاتها ولكن عليها التزاماتها بالمقابل بما يحتم استمرار المسن في أنشطته العملية والفكرية وربما المهنية إذا تمكن خاصة وأن النظر إلى مراحل العمر اختلفت فعلا فمن يبلغ الستين اليوم يبدو شكلاً ونشاطاً وكأنه لم يتجاوز الأربعين بفضل تقدم العناية الصحية والشخصية التي أصبح الناس يولونها لأنفسهم في العصر الحديث وفي معظم المجتمعات المستقرة.
حديثنا هذا يجب أن يطرح عدة قضايا جوهرية تستحق فتح بابا النقاش حولها:
ضرورة مراجعة سياسات إقرار سن التقاعد الإلزامي في المملكة والتي تربطه ببلوغ الموظف الستين رغم أن كافة الأبحاث وكما أشرنا تشير إلى الارتفاع المطرد في العمر المتوقع للإنسان السعودي مما يحتم ضرورة طرح هذه المسألة على الخبراء وعلى الملأ والرفع بتوصيات رفع سن التقاعد ( لمن يرغب ) وخاصة في المهن التي ذكرناها سابقا وذلك لتحقيق أقصى فعالية من الخبرات المتراكمة لدى الكثيرين الذين يمكن أن يعملوا سنوات كـ ( منتور ) أو موجهين للطاقم الجديد من الشباب الصاعد.
ضرورة تعديل السياسات الاجتماعية والصحية المقدمة لكبار السن وخاصة في المناطق الفقيرة والنائية حيث أظهرت الدراسات ( أشواق المانع 2016 ) بأن هناك اختلافا كبيرا بين المتقاعدين من طبقات عليا ومتمكنة وبين المتقاعدين في الطبقات الفقيرة حيث أظهرت الدراسة ضغط الحاجة الاقتصادية و العزلة الاجتماعية بعد تجاوز سن الستين عليهم أكثر من من هم من طبقات مقتدرة.
ضرورة مراجعة مفاهيمنا لرعاية كبار السن وتوجيه الانتباه إلى أن الرجال من كبار السن قد يعانون إهمالا أكبر مع تقدمهم في السن أكثر مما قد تتعرض له النساء! نتيجة عجيبة. نعم. لم أقرأها في دراسة علمية حتى الآن ولكن الملاحظات الشخصية تدفعني إلى تسجيل هذا الأمر بفعل عدد لا بأس به من حالات الإهمال بل وربما الإيذاء الذي قد يتعرض له الرجل المسن أكثر من المرأة المسنة! ويبقى مجالا خصبا للدراسات الاجتماعية.