إن من الأمور التي تم الإسراف فيها وبشكل جليّ هي السماح للعقل بأن يقود عمليات الأداء الإنساني إن صحت التسمية إذ كل شيء لا بد أن يصدر عن العقل فإن أحببت شيئا ما فلا بد أن يقبل بذلك العقل وإن كرهت كذلك شيئا ما فلا بد أن يوافق العقل على تلك الكراهية وهنا ثمة مزلق خطير يجب التنبه له وهو أن الإستسلام للعقل بهذا الشكل يجعلنا نتخبط في خط الحياة ذلك أن العقل إنما هو أداة من الأدوات التي تساهم بشكل ما على السير في هذا الخط الحياتي أو ذاك أي أنه ليس كل الأدوات وهذا الذي أوقع الكثير منا في إفاقة المارد المطمور أعني اللكمات الموجعات والحوادث المزعجات التي تصب على أحدنا صبح مساء بسبب جعل العقل هو القائد الأوحد له في حياته وإغفال للقلب تام وما قد ينتجه من إشارات وعلامات بها دلالات على الطريق وهدايات للمسترشدين لو كان يعقلون. إن العقل بحسب نقل الدكتور خالص جلبي عن عالم الاجتماع الوردي بأنه ليس إلا عضوٌ خلقه الله لمساعدة الإنسان على البقاء مَثَلُه في ذلك مثل خرطوم الفيل أو درع السلحفة أو ناب الأفعى. وإذا كان الحبل الذي يوضع في الأرجل أو الأيدي هو القيد كما يعرف الجميع فإن ما لا يعرفه -أغلب الجميع- أن لدينا قيودا يقوم ببثها من يعتبره أكثرنا هو المساعد الأول والأوحد والأكمل ألا وهو العقل. وهذه إحدى مشاكلنا مع -السيد عقل- إذ أنه يمارس علينا/ ضدنا وبموافقة واستسلام وقبول تامّ منا صناعة مجموعة من القيود الوهمية بشكل لا يخطر على بال. إننا أمام هذا العقل أشبه بالمنومين تنويما عميقا لا حراك لنا فيه إلا بالتقلب ذات اليمين وذات الشمال وهو باسط ذارعيه علينا ولا تكاد تسمع لنا معه همسا إننا في وضعية استسلام تام لما يراه ويمليه ويحركه فينا تجاه أنفسنا والآخرين سواء كانوا أشياء أم أشخاص. وإن مما حفظته الذاكرة القصصية لبني الإنسان ما جاء في قصة جحا وقيده الوهمي الذي وضعه في خط حياته!؟ وهذا القيد -أعني قيد جحا- هو ما سماه كارل ماركس بالقيد الأبكم للظروف بمعنى أن يمر بك ظرفا ما يجعلك تعمل بشكل مجبر على شكل معين وطريقة معينة ففي أحد الأيام سأل جحا زوجته المباركة عن كيفية معرفتها للحي من الميت؟ فأجابت بأن الواحد إذا مات وبردت أطرافه الأربعة فهو ميت وأنك إذا رأيت من هو كذلك فسارع بدفنه. فحفظ جحا ذلك الوصف وفي أحد الأيام الباردة خرج ليحتطب للتدفئة وهو في عملية جمع الحطب لاحظ بأن أطرافه الأربعة قد بردت فقل في نفسه لنفسه؛ لقد مت!! وهذا هو الوصف الذي ذكرته زوجتي ثم ما لبث أن استلقى على ظهره وهو يتأمل في نفسه الميتة! وهو على تلك الحالة إذ بقطيع من الذئاب الجائعات تهجم على حماره فتفترسه وهو مستلقٍ على ظهره ينظر ولا يفعل شيئا لأنه ميت والميت لا يقدر على شيء وبعد حين حرّك رأسه ورفعه قليلا ثم صرخ على الذئاب قائلا أيها الجبناء تعرفون أن صاحبه ميت فأكلتموه وأيم الله لو كنت حيا لما تجرأتم ولعرفت كيف أؤدبكم على ما فعلتم! إن ما فعله يبين لنا كيف أن وهمه سجنه ومنعه من الحركة والدفاع عن حماره. فيا أيها الإنسان ماذا تفعل بنفسك بهذه القيود!!؟ قال الدكتور مصطفى السباعي رحمه عندما قال: كثيرا ما يصنع الإنسان من أوهامه, سجنا يمنعه من الحركة والانطلاق. إن هذه القصة توضح بجلاء مشكلة القيود التي نضعها أمام أنفسنا فتتعرقل مسيرتنا وتفوت الفرص وتزداد المخاطر والسبب قيد وهمي وضعناه وانحبسنا فيه منومين ومستسلمين. وحتى تنجلي عنا كل القيود لابد أن نمارس دور المراقبة الواعية وتفعيل المشاهد الداخلي وعندها سوف نصحو مستيقظين من سلطان القيود وندرك شاهدين على الكمية الكثيرة منها والتي نستجلبها لأنفسنا بوعي وبغير وعي ومع تفعيل دور المراقبة فلا بد من الحزم كما قال الأول:
إذا المرء لم يستخلص الحزمُ نفسَهُ
فذِروَتُهُ للحادثاتِ وغارِبُهْ
واعلموا بأن هذه القيود إنما هي موارد جهل ومصادر ندم فإياكم والتعاطي معها وتكوين سيناريوهات درامية تكون هي من تأخذ دور البطل حيث ولا شك ستتفاجئ بالفشل.