د. حسن بن فهد الهويمل
هناك احتفاء بالقيمة المقدمة.
وهناك احتفاء بالذات المقاربة.
وقلَّ أن يتهيأ الاحتفاء بالذات، والقيمة، بشقيها.
كل المفكرين المتمكنين: الموافقين، والمخالفين ينتزعون الاحتفاء بالقيمة المتمثلة بالرصيد المعرفي: كمّاً، ورؤية، وحسن أداء. ولكنهم قد لا يظفرون بها لذواتهم المخالفة.
[عبد الرحمن بدوي] الوجودي العربي - على سبيل المثال - لا يحفل بشيءٍ من الاحتفاءين في [سيرته الذاتية]. لا احتفاء الذات، ولا احتفاء القيمة، ولكنه يظفر باحتفاء القيمة المتمثلة بمكتسباته المعرفية، التي لا يستغني عنها أي باحث جاد.
انقدحت هذه الفكرة، وأنا أستلم مظروفاً من أديب الأمراء، وأمير الأدباء [خالد الفيصل].
وسوف أتعامل مع إهدائه مثلما تعامل الناقد اللبناني الساخر [مارون عبود] مع أخيه الشاعر الأمير [عبد الله الفيصل] رحمه الله، حين طلب منه خلع تاجه، وخنجره. فلسوح الصعاليك من الحرية، والمكانة، مثلما لسوح الملوك، وأبناء الملوك. أو كما قال.
[خالد الفيصل] لا يعتم بتاج، ولا يشد وسطه حزام.
ولهذا قد أتوسل برؤية البنيويين الذين يحكمون بـ [موت المؤلف] حتى تتهيأ لهم حرية القول في المقول عنه.
و[موت المؤلف] في النظريات النقدية، لها مقاصد حسنة، وأخرى سيئة.
كتاب [إن لم… فمَنْ..؟!!] لـ [خالد الفيصل] كتابٌ غرائبي، يتوفر على الاستثنائية بقدر ما يتوفر عليها محبره.
هذه العتبة الغرائبية استدرجتني من حيث لا أريد في رمضان، على قراءة المداخل، ومضيت أقرأ الشوط ، بعد الشوط، حتى تجاوزت ثلث الكتاب في جلسةٍ واحدة.
وأنا مشدود إلى هذا الشكل الأسلوبي الذي لا ينهض بما نريده من السير الذاتية، ولكنه يلهينا بجماله، كما ألهت [بني تغلب] قصيدةٌ قالها [عمرو بن كلثوم]، مفتخراً بقومه.
على غير سنن السِّيَر جاءت هذه السيرة الذاتية، ولم أكن حديث عهد بهذا اللون من القول. فلقد حُكّمتُ، وأشرفت، وناقشت رسائل علمية، وأعمالاً إبداعية، وحاضرت، ونقدت.
ولمّا أزل مع هذا الفن الشيق ألاحقهُ، وأستشف منه حيواتٍ، وعبَر، ومعارف.
لقد كانت سير الساسة، والمفكرين، وسائر المفتونين بالحرف ينابيع معرفة، وتجارب. تعطي من الفوائد ما لا يعطيه ما سواها.
الأمير الاستثنائي [خالد الفيصل بن عبد العزيز] كرمني بقراءة سيرته، وأنا مدين له بأفضال كثيرة.
وما كنت لأقرأ هذه السيرة في رمضان لولا عتبتها الجذابة، وأسلوبها الأخَّاذ.
كلمات مقطّعة كفواتح بعض سور القرآن التي أعجزت أساطين التفسير، حتى قال قائلهم: [الله أعلم بمراده منها].
ما كتبه سمو الأمير سيرة ذاتية شاء أم أبى. بل هي سيرة بكل ما تعنيه السير الذاتية، ولكنها تهويمات متخففة، لا عازمة، ولا جازمة.
ولأن سموه أخذنا معه في هذا المشوار الممتع فإن واجبه أن يكمل المسيرة. ولا يبقينا على قارعة الطريق.
هي سيرة، وإن اختلفت بلغتها الشاعرة، وأسلوبها الأخاذ، وشكل أدائها الجميل. ومع ما يحمله هذا الشكل من إمتاعٍ، واستدراج، إلا أنه جاء على حساب معارف، وتجارب، وحقائق، يمن بها على من هو أحوج إلى مثلها.
وأرجو ألا يكون هذا الشكل، وذلك الأسلوب حيلة للهروب من استكمال السيرة. وسمو الأمير حين يتنصل من سيريَّتها، لا يملك توجيه القارئ، ولا التحكم برؤيته.
وكل مبدعٍ يقول كلمته الأجمل عليه أن يبرح الساحة، ليقول القارئ كلمته لأننا في زمن [نظرية التلقي].
وأحسب أن المبدع بهذا التحفظ خائفٌ يترقب على بنات الأفكار. ويقيني أن ما قيل كضالة الإبل، معها حذاؤها، وسقاؤها، وليست بحاجة إلى ظهير.
لقد ضِقْتُ ذَرعاً بما أحب، من لغة جميلة وشكل أخَّاذ، لأنها حملت المبدع على [كبسلة] المعلومات الأهم.
أنا محب لأصحاب الأساليب المتأنقة، كـ [طه حسين] و[الزيات]، والمتعمقة كـ [الرافعي] و[شاكر]، والمعقدة كـ [العقاد] و[ناصف]، والممتعة كـ [زكي مبارك] و[المازني].
و[خالد الفيصل] في سيرته قارب هؤلاء جميعاً، ولكنه على حساب معلومات أهم، وأي معلومات أضاعها.
ما كان بودي أن تتأنق يا سمو الأمير بأسلوبك، وشكل عرضك على حساب مطلوب يتطلع إليه كل مواطن، قلت له:
[لأنني منك، وأنت مني..
وكلانا بأغنية الوطن نغني..]
حب تاريخنا الشفهي الذي أنت أحد صنّاعه، يفوق عشقنا لسماعه رغبتنا في جماليات اللغة، وجرسها و[رومنسيتها].
نعم، أنا من المحتفين باللغة الرفيعة، والأسلوب الأخَّاذ، ولكنني خسرت ما هو أهم، وأجدى.
فهل لك أن تطلق لقلمك العنان، لتقول ما نحن بأمس الحاجة إليه..؟
أن تعصر زهر اللغة ليكون عطراً محبوساً بهذا الشكل الذي اخترته، كما يحبس قطر العطر بالقارورة، ليظل عطراً، يُنْظَرُ إليه، ويشمّ.
لقد حاولت أن تصور شطراً من هذه الحياة، ولكنك حين ارتهنت نفسك لهذا الشكل، اكتفيت باللقطات المهمة، ولا شك أنك مصورٌ بارع، يعرف الزوايا المهمة.
المبدع كبعض السيريين، لا يريدون موضعة أنفسهم.
- وهل أحد يستطيع أن يموضع نفسه، ثم لا يميل كل الميل، ويدع ما سواه معلقاً؟
لقد تساءل سموه باستغراب: لماذا يكتب ذاته؟. ولكي يشرعن لنفسه هذا الإبداء توسل بالحب المتبادل بينه، وبين مواطنيه.
أحسب أن الاستثنائيين، وفي مقدمتهم الأمير ملزمون بكتابة الذات، سواء طُلب منهم، أم لم يطلب. فهم أوعية معارف الوطن، وملفاته المهمة، وهي ليست ملكاً لهم، وإن حملوها.
وكم ساءني موت من أعدهم [الصندوق الأسود] التي تحمل شفرات الأمة، وما كتبوا شيئاً. وساءني أيضاً من كتب، ولكنه لم يقل ما نود قوله، وقد عاتبت بعض أولئك على صفحات الصحف، وما استطاعوا إقناعي بمشروعية هذا الإحجام.
الأمير [خالد الفيصل] لمَّا يزل يُقدِّم المقبلات، فسيرته تلك أشبه بالمقبلات في الفنادق الراقية، ونحن بانتظار الوجبة الرئيسية.
سيرة سموه عطرة، مليئة بالمفاجآت، والمبادرات، عرفنا ذلك قبل أن يلمح إليها على استحياء. ولمَّا نزل نطالب بالمزيد، فالشهية لمَّا تزل تطلب بقية التاريخ.
وما لديك من تجارب، لا تملكها، وليس من حقك حبسها، وعليك أن تقولها بالتفصيل قبل أن يقولها غيرك، ثم لا يكون أمثالك.
ما كتبه سموكم مقدمة. أو تمهيد. فأين المتن..؟ أين جوف الفراء، إذ كل الصيد في جوف الفراء..؟
عمل سموكم في [رعاية الشباب]، وكانت لك مواقف، وإجراءات، ومعارك حامية الوطيس.
فأين تفاصيلها الممتعة والمفيدة..؟
وأنت في [أبها] تاريخ حافل بكل جميل، لك مبادرات، ومشاريع لقيت في سبيلها نصبا.
فأين تفاصيلها أيها الأمير..؟
[جريدة الوطن] تحتاج إلى كتاب، إنها مغامرة محفوفة بالمخاطر.
و[مؤسسة الفكر العربي] تحتاج إلى مجلدات.
و[مركز الملك فيصل الخيري]، وما يتبعه من مؤسسات كـ [جائزة الملك فيصل العالمية].
و[سوق عكاظ] وما تمخض عنه من مفاجآت غريبة.
و[إمارة مكة].
وفوق كل ذلك [منصب المشورة].
وأشياء كثيرة لا يجوز تجاوزها تحت أي مبرر، أنت الذي حفزتنا على المطالبة، وأنت الذي فتحت شهيتنا. وأنت جزء من تاريخنا، فلا تحتفظ بنسخته المخطوطة في صندوقك.
افتحه قبل أن يفتحه غيرك، ثم لا يحسن قراءته.