أحمد المغلوث
كانت أمامه مهمتان رئيستان: الأولى أن يشتري ست (عقبات) برسيم لبهائم بيتهم غنم ودجاج وبقرة، والثانية بريال خبز من الخباز «الشعلان» الملك غير المتوج في مدينته لهذه المهنة العظيمة. نعم هناك من يسميه بينه وبين نفسه ملك الخبازين، وكان عددهم في مدينته لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة منتشرين في أحياء المدينة.. لكن الخباز الشعلان وبحكم موقعه المتميز بقربه من سوق قيصرية يشكل علامة هامة لا تخطئها العين رغم وجود خباز «الضمن» على بعد خطوات منه، والمدينة التي حطمت سورها الطيني ونشطت من عقالها وبدأت سيرها نحو التقدم واتجهت غرباً فبدأت بيوت جديدة تبرز للوجود خارج السور الغربي الممتد من برج نجم مروراً ببوابة المدينة (الدرواة) والتي بني بقربها قصر داود يقابله جنوباً جامع داود أيضاً وشيشة البانزين التي أقامتها أسرته. كان عليه أن يخترق الطريق الضيق والملتوي بدءاً من باب بيتهم الشرقي وصولاً إلى سوق «الجت» وبعدها يواصل سيره إلى المخبز. ويعود في الطريق نفسه. كان يستمتع بهذه المهمة شبه اليومية والتي عادة ما يشاركه فيها شقيقه الأكبر. بالتناوب. صحيح كان يحاول التهرب من تحمل هذه المسئولية اليومية لكن لا مفر. فلا بد مما ليس منه بد. ان يقوم بالمهمتين، وبدون تردد أو اعتذار، لكنه هذه الأيام سعيد جداً فهو يؤدي ما كلف به من قبل والدته بكل سعادة وحبور. فلديه دراجة جديدة (سيكل رايلي) لا أروع، اختار له جرساً رناناً وزينة مع شقيقه بشرائط بلاستيكية ملونة احسن احد ابناء الحي «بسفها» وزخرفتها بصورة بديعة تجذب الناظرين. ما هي الا دقائق ووصل إلى سوق «الجت» واشترى العدد المطلوب من عقب «الجت» واحسن ربطها في المقعد الخلفي للدراجة وواصل قيادته للدراجة متجهاً إلى المخبز. أسند دراجته بما تحمله على جدار المخبز وكان بعض من الزبائن يقفون مشكلين حاجزاً على الباب، وبعضهم يجلس على ركبتيه.
وهناك أيضاً من يقف داخل المخبز متحلقين حول الخباز الذي كان يجلس يجوار فتحة التنور وإلى جواره كرات العجين، ومنسف كبير يضع فيه الخبز. استطاع بحكم جسمه النحيل أن يدخل إلى الداخل، وقف الفتى يطيل النظر في المشهد الذي أمامه ونيران التنور ترسل ضوءاً يبدد ظلمة المكان بمساعدة الضوء الكسول للسراج المعلق على جدار المخبز. كان الخباز الشهير الذي افترست نيران التنور ملامح وجهه فتركت تجاعيد واضحة عليه وأكسبته لونا حنطيا تجاوز حدوده.! وظل يرقب كيفية فرده لكور العجين ومن ثم لصقها داخل التنور المتوهج. وبين لحظة واخرى تهب عليه لفحة من نيران التنور وتشعره بالدفء في هذا الطقس البارد. وعندما التفت اليه الخباز راح يرحب به وهو يقول. الله يهديك يا ولدي ما كأنك تأخرت اليوم عن أخذ خبزكم. لكن اصبر اعوضك وين «فوطتكم». لحظة وأعطيك الخبز. ناولها اياها مع الريال. ووضع الخباز الخبز في الفوطه واحسن تغطيته. وسلمه اليه. وسط نظرات الزبائن. عندما خرج من المخبز لم يتمالك الفتى الا ان يصرخ وين «سيكلي»؟! وين سيكلي؟!. ووجد «عقب الجت» بجوار الجدار، لكن السيكل فص ملح وذاب. راح يبكي وشرق بدموعه ومسحها بكمه وتجمع حوله زبائن المخبز وخرج الخباز معهم وراحوا يواسونه وبعضهم يربت على كتفه. عليك العوض.. وأخيراً حمل «الجت» على رأسه وهو يمسك فوطة الخبز وتوجه إلى بيتهم وهو مكسور الخاطر..!
تذكر ذلك وهو يقرأ في الصحيفة خبر الاحتفال بمرور 200 سنة على اختراع الدراجة.. لكنه إلى اليوم لا يعرف من سرق دراجته!.
تغريدة:
يوجد لدينا حكايات لا تشبه حكايات الآخرين.