د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
عرَّف بعض العلماء «التفكير التاريخي السليم» بأنه القدرة على التموضع الحقيقي في الزمان والمكان، أي القدرة على رؤية الأمور آنياً وفق ظروفها وسياقاتها ومستجداتها، لا كما نتخيلها أو نرغبها أن تكون. ويسمى ذلك في المصطلح السياسي «الواقعية السياسية»، ريال بوليتك. لكن وللأسف كثير من العرب يستمر في رؤية أمور اليوم بعين الأمس، من خلال شعارات معلبة مضى عليها عقود. وما أن يفيقوا ويدركوا أنهم على خطأ تكون الظروف التاريخية تجاوزتهم مرة أخرى وهلم جرا.
إسرائيل، مثلاً، دولة مغتصبة لأراض عربية وهذا لا جدال حوله، ولكنها اليوم ليست مجموعة مخيمات يمكن إزالتها أو تهجير أهلها وتحرير الأرض، فهي دولة حديثة، متطورة، وقوتها تعادل قوة العرب مجتمعة. والعالم الخارجي يعترف بها ويدعمها، بل ويعدها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة. ومقابل ذلك هناك بعض العرب، ومنهم بعض الفلسطينيين يصر على رؤية الأمور ليس كما هي بل كما يرغبونها أن تكون، مع أنهم لا يملكون قوة تدعم ذلك. يفكرون بعقلية كل شيء أو لا شيء، ويرفع بعضهم سقف المزايدات بالقضية دونما طائل، وفي كل مرة يقدمون تنازلات أكثر من السابق بعد فوات الأوان. فتحولت القضية الفلسطينية إلى شعارات يتم بموجبها استدرار العطف وتضليل الشعوب، حتى ان البعض طالب بمقاومة إسرائيل بالتكاثر السكاني، وهو الأمر الذي انعكس سلباً على الاقتصاد الفلسطيني نفسه.
استغلت إسرائيل المزايدات في تمييع القضية الفلسطينية والالتفاف على التنازلات الفلسطينية المتتابعة. وما أن أدرك الفلسطينيون ذلك ووحدوا صفوفهم، ظهرت حماس وكأنما هي هبة من السماء لإسرائيل لشق الصف الفلسطيني. ومن تابع تاريخ حماس عن قرب عرف أن الموساد سلحها سراً في البداية؛ ليضمن وصولها لقوة مكافئة لقوة منظمة التحرير الفلسطينية.
نجحت إسرائيل في استغلال ذلك سياسياً ودعائياً ومضت قدماً في تهويد الأراضي الفلسطينية. وأصبح لدينا سلطتان فلسطينيتان، سلطة قومية في الضفة وأخرى إسلامية في غزة. وهذا استثمار ذكي للصراع الأبدي القومي الإسلامي العربي.
ظهرت الثورة الإيرانية في فبراير 1979م، ودعمها سذج التوجهات الإسلامية العربية كثورة إسلامية لعموم المسلمين، مع أن أهدافها الفارسية مختلفة جداً. تأسس حزب الله في عام 1985م وتم استيفاد كثير من الشخصيات الشيعية العربية لقم لإعدادهم لقيادة حركات تزعزع بلدانهم وتخدم مصالح إيران. فاحتضنت إيران حزب الدعوة العراقي في عام 1980 م بعد حظره في العراق، وتم تأسيس حماس في عام 1987م. ولم يكن أمام إيران أفضل من استغلال الزخم الكبير لدعم القضية الفلسطينية لتورية أهدافها، فادعت أن هدفها هو مواجهة إسرائيل بل وتعدى ذلك لتحرير القدس، فصدقتها بعض الجماهير المحبطة. لذا قاومت إيران عبر هذه الحركات كل محاولة لتسوية واقعية للقضية الفلسطينية.
اتضحت نوايا إيران بعد تولي حزب الدعوة الحكم في العراق وتشكيل ميليشيات وحشود شيعية مهمتها قتل وتشريد السنة انتقاماً لمقتل الحسين قبل 1400 عام. وادعى كثير من أئمة الشيعة أنهم من آل البيت وأن لهم قدسية إلهية حقيقة تفرض على اتباعهم طاعة عمياء. وقد سبقهم لذلك الإمام اليمني أحمد حميد الدين الذي اعتقد أنه من سلالة النبي - عليه أفضل الصلاة والسلام - وأن له قدسية خاصة وجنوداً من الله وجِنَّاً يدعمونه، وكان أتباعه يقدسونه كما يقدس بعض الشيعة الملالي في إيران، ويطلقون على أنفسهم أنصار الله أو حزب الله، ومقابل ذلك يُفتي لهم بجواز غزو غيرهم من الطوائف يقتلون ويسلبون ويغتصبون تنفيذاً لإرادة الله. وهذا هو بالضبط ما تفعله حشود إيران بالسنة في مدنهم وقراهم، يقتلون شبابهم، يغتصبون نساءهم ويسرقون بيوتهم.
وبينما صراع العرب مع إسرائيل هو على أراضي الضفة الغربية، حرب إيران على العرب خصوصاً السنة مفتوحة في الزمان والمكان، تدفعها رغبة الانتقام للحسين والتمهيد لعودة المهدي المنتظر!! فالواقع السياسي والتاريخي يفرض علينا أن نرى إيران مرحلياً أخطر بكثير من إسرائيل. فهي أكثر عدوانية، وأكثر وحشية، تقتل بهدف الانتقام، ومطامعها هي إخضاع العرب كلهم والاستيلاء على أراضيهم إحياءً للإمبراطورية الفارسية. ثم يأتي بعض العرب ومنهم دول خليجية كعمان وقطر للأسف وتمد يد الصداقة والعون لهذه الدولة الغاشمة طامعين وهماً في درء خطرها، وكل ما يفعلونه هو فقط تأجيل وصول أطماعها لأراضيهم.