ظلّ التراث الثقافي الشفهي (اللا مادي) هو بؤرة اهتمام العربي، وشكّل بالنسبة له، وما زال، القوام الروحي والاجتماعي والوجداني لقرون عديدة. وحرص العربي طوال تاريخه على الاهتمام بهذا التراث والحفاظ عليه، باعتباره إرث أجداده وميراثهم، فظلت الذاكرة العربية تعي وتحفظ ألواناً من هذا التراث منها: النصوص الأدبية من الشعر، والأمثال، والمقامات، والقصص، والأساطير والأشكال الأدبية الأخرى، بل والعادات والتقاليد، وربما الفنون الأدائية والإيقاعية أيضا، التي لا زالت تدبُّ فيها الحياة وتناقلتها الأجيال.
كل هذا يدل دلالة واضحة على وعي العربي بقيمة هذا التراث، وحرصه على الاحتفاظ به والحفاظ عليه. وأكاد أجزم أن العربي من أكثر أجناس الأرض وعياً بهذا النوع من التراث، واهتماماً به، وحفظاً له، وما زال مرتبطاً به ارتباطاً عضوياً من خلال أبعاد تاريخية، واجتماعية، وحضارية، ودينية، وسياسية على حد سواء. ،وما زال لهذا التراث تأثيره، الإيجابي أو السلبي، في حياته المعاصرة، وما زال مترسخاً في ثقافته، ووجدانه، وربما في سلوكه وتصرفاته.
ولم يكن اهتمام العربي القديم بتراثه المادي، والحفاظ عليه، يوازي اهتمامه بتراثه الشفهي والروحي. وإن ظهر هذا الاهتمام في نماذج قليلة، ربما جاءت من إدراك العربي لقيمة هذا التراث الروحية في المقام الأول، وهذا هو الأهم عنده، لا لإدراكه لقيمته التاريخية أو التراثية. فنجده يحرص على الاحتفاظ بسيف أبيه، باعتباره إرثاً يعتز به من أبيه، وربما لخصوصية السيف وما يمثِّله من دور في الحفاظ على حياته أو الزود عن حياضه (قيمته الوظيفية)، ثم قد تأتي بعد ذلك قيمته المادية أو الجمالية أو التاريخية أو لا تأتي. والأمر ينطبق بطبيعة الحال على الموروثات المنقولة من مجوهرات وحلي، التي يظل الاحتفاظ بها والحفاظ عليها نابع من إدراكه لقيمتها الروحية، والوظيفية، وقبلهما المادية، لا لقيمتها التاريخية أو التراثية في حد ذاتها.
والتراث المادي الثابت لم يحظ بمفهوم الحفاظ عليه، والاحتفاظ به، ذلك المفهوم الذي ينسحب على تلك النماذج السابقة من التراث المادي المنقول، وربما كان لطبيعة حياة العربي القديم القائمة على التنقل والترحال وافتقارها إلى الاستقرار، دور في تلاشي هذا المفهوم، أو انحصاره في الحفاظ على هذا التراث لقيمته الوظيفية وباعتباره مأوى لا بد من الاحتفاظ به لا باعتباره تراثاً له قيمته التاريخية أو الرمزية أو أية قيمة تدعو للاحتفاظ به، بل على العكس، فقد كان يهدم لاستغلاله في بناء جديد.
وبمرور الزمن تدخلت مؤثرات أخرى، كان لها أثر سلبي وآخر إيجابي، على مفهوم الحفاظ على التراث المادي عند العربي القديم، منها الثقافة الدينية، أو الاعتقاد الديني، وهو ما جعل نظرة العربي نحو المنتجات المادية للحضارات القديمة والفنون التشكيلية فيها، باعتبارها قامت على الوثنية الدينية، يشوبها الشك والريبة، وارتقت إلى النظرة العدائية أو غير الايجابية، مما ساهم في تلاشي فكرة الحفاظ على هذا النوع من التراث أو الحرص على الاحتفاظ به. إلاّ أن الاختلاط بالحضارات والثقافات المجاورة، والتداخل معها تداخلاً مباشراً، من خلال الفتوحات العربية، كان له تأثيره الإيجابي في التعامل مع ثقافات هذه الأمم ومع تراثها، وفي تولد مفهوم الحفاظ على التراث المادي بشكل عام، فدخل العرب مصر ولم نقرأ عنهم أنهم قاموا بتحطيم آثارها أو تدميرها، كما ثبت تاريخياً براءتهم من تهمة حرق مكتبة الإسكندرية التي ادّعى بعض المؤرخين أن لهم علاقة بها.
وتحتفظ كتب التاريخ والأدب بنماذج لعقليات عربية كان لديها الوعي الكافي بأهمية الحفاظ على هذا التراث والاحتفاظ به، وإن ظل هذه الوعي بالحفاظ على التراث والاهتمام به حالات فردية أحياناً، ووعي نخبوي أحياناً أخرى، لا يرتقي للوعي الجمعي حتى وقت متأخر جداً. ومن هذه النماذج الرحالة العربية المسلم عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، الذي اشتهر باسم عبد اللطيف البغدادي ولقّب بابن اللبّاد، وهو من فلاسفة الإسلام، وأحد العلماء المكثرين من التصنيف في الأدب، واللغة، والتاريخ، والبلدان، والحكمة، والطب، وعلم النفس، والحيوان. ولد في بغداد في العراق سنة 557 هـ الموافق 1162م. وقد أقام مدة بحلب، وزار مصر والقدس ودمشق وبلاد الروم ومالطة والحجاز وغيرها. وكان ذواقاً للآثار، وصاحب حسّ مرهف، ووعي متفتح، وقد تجلى هذا فيما سجله من انطباعات، جديرة بالتأمل والاهتمام، عن زيارته لمصر، (على الأرجح في عهد صلاح الدين الأيوبي)، ووصفه لما شاهده في مصر من شواهد أثرية وفنية. وصنّف في ذلك كتابه المشهور « الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة في أرض مصر» الذي أنهى كتابته عام 600هـ ، وخصص فصله الرابع لآثار مصر، وعنونه بـ «في اختصاص ما شوهد من آثارها القديمة»، وقد استنكر أن الناس في عصره كانوا يخربون الآثار ويكسرون التماثيل ويدخلون إلى المقابر بحثًا عن الكنوز وسعيًا وراء الذهب المدفون.
وهذا الكتاب يكشف، بصورة جلية، عن معارف البغدادي الواسعة، وهواياته المتعددة، وأهمها الاهتمام بالآثار وولعه بها، وغيرته عليها، ومناداته بالحفاظ عليها والاهتمام بها؛ لأنها خير شاهد على حضارة الأقدمين وعراقتهم في الرقي والتحضر. وتكلّم البغدادي في كتابه عن آثار الجيزة ومنف وأبو صير، وكان يصف الآثار وصفًا متناهيًا في الدقة والأمانة، وكان يسعى لذلك بكل الوسائل، حتى أنه كلف رجلًا كي يقيس له ارتفاع الهرم. وكان البغدادي يبدي اهتمامه الشديد لمعرفة طريقة نقل حجارة الأهرام وتركيبها، والمواد التي استخدمت في بنائها، واللغة المجهولة المكتوبة عليها. ويتحدث عن اهتمام السلطات العربية الإسلامية بالمخّلفات الحضارية في معرض مشاهدته لآثار مصر العظيمة، في قوله: «وما زالت الملوك تراعي بقاء هذه الآثار، وتمنع العبث فيها، والعبث به، وإن كانوا أعداء لأربابها، وكانوا يفعلون ذلك لمصالح، منها ليتبقى تاريخًا يُتنبه به على الأحقاب، ومنها أن تكون شاهدا للكتب المنزلة فإن القرآن العظيم ذكرها وذكر أهلها ففي رؤيتها خبر الخبر وتصديق الأثر. ومنها أنه مذكرة بالصبر ومنبهة على الملل، ومنها أنها تدل على شيء من أحوال من سلف وسيرتهم وتوافر علومهم وصفاء فكرهم وغير ذلك وهذا كّله مما تشتاق النفس إلى معرفته وتؤثر الاطلاع عليه.» (الكتاب الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 1998م:ص106-107). ويتبين من هذا النص وعي الرحالة العربي المسلم بقيمة هذا التراث، وايمانه هو شخصياً، وإيمان السلطات الحاكمة في مصر في ذلك الوقت، بالحفاظ عليه والاحتفاظ به، ومبرراته ومبرراتهم في ذلك واضحة ومقنعة كما ساقها النص.
وهناك نموذج آخر ينم عن وعي مستنير وإدراك بقيمة التراث لشخصية مستنيرة واعية، وهو القاضي أبو يعلى عبد الباقي بن أبي حصن المعري، وهو قاض من الشعراء حفيد أخ لأبي العلاء المعري، ولي القضاء في المعرة إلى أن دخلها الإفرنج فانتقل إلى شيزر وتوفي، وكان يقضي بين الناس على مذهب الشافعية، وله ديوان شعر وعدة رسائل، توفي عام 523 هـ/ 1129م.
وقد مر يوماً بقرية يُقال لها «سِياث» من أعمال معرّة النعمان (جنوب إدلب في سوريا) فوجد أناسا يهدمون مبانيها القديمة، ويكسرونها بالمعاول ليخف عليهم حملها، وهي عادة كانت منتشرة حتى وقت قريب في كثير من الدول العربية حيث كان الناس يستسهلون اقتلاع أحجار المباني الأثرية القديمة واستغلالها في بناء مبانيهم بدلاً من اجتلاب أحجار جديدة وتهذيبها، فهاله ما رأى، ووقف متأسفاً، وقال هذه الأبيات التي تدل على وعي صاحبها بقيمة التراث، وتعبر عن موقف الطبقة الواعية المستنيرة، أو النخبة كما يطلق عليها الآن، من المخّلفات الحضارية ومفهوم الحفاظ على التراث وحمايته. يقول القاضي أبو يعلى عبد الباقي بن أبي حصن المعري:
مررت بربع من «سياث» فراعني
به زجل الأحجار تحت المعاول
تناولها عبل الذراع كأنما
جنى الحقد فيما بينهم حرب وائل
أتتلفها؟ شّلت يمينك! خّلها
لمعتبر، أو زائر، أو مسائل
منازل قوم حدثتنا حديثهم
ولم أر أحلى من حديث المنازل
وهو يسوق هنا المبررات القوية، والحيثيات المنطقية للحفاظ على التراث ومخلفاته المادية، وتكاد تكون مقاربة لتلك اليت ساقها عبد اللطيف البغدادي من قبل، وقد عددها أبو يعلى بإيجاز في الشطر الثاني من البيت الثالث، وهي أنها موضع الاعتبار والاتعاظ، وأنها جديرة بالسياحة والزيارة والتأمل والمتعة، وكذلك كونها مجال للبحث والتساؤل والدراسات التاريخية والعلمية، وأضاف في نهاية هذه الأبيات الهامة، حساً وجدانياً آخر يضاف إلى ما فيها من قيم، كونها تاريخ ناطق بحياة قوم قد رحلوا ، وتركوها خلفهم لتحدثنا عنهم.
** **
- د. محمد أبو الفتوح غنيم