أراد جمال ناجي ببلحارث في روايته الشهيرة (الطريق إلى بلحارث) قرية صغيرة جنوب محافظة العُرْضِيّات التابعة لمنطقة مكة واسمها خيرية، بها مدرسة بلحارث الابتدائية حيث كان ناجياً معلماً، انتقلت منذُ سنوات من مقرها السابق الى قرية مجاوره اسمها (حدبة الغبيراء)، وتغيّر اسم المدرسة إلى الطفيل بن عمرو، صدرت الرواية منذُ قرابة الأربعة عقود وقد نحى العنوان منحىً مكانياً حيث يحمل اسم بلحارث، انطوت الرواية على الكثير من الخيال الروائي وتحكي بعضاً من واقع المنطقة في ذلك الحين، أما أحداثها فإني أمقت قبح تجاوزه للخطوط الحمراء الأخلاقية، وأسلوب الرواية الغربية الذي يعتني بالعنصر المشوق لديهم ويتنافى مع مبادئ ديننا الحنيف، الرواية تسبر حياة معلمين مغتربين قدموا من عمّان الأردنية -ذوي أصول فلسطينية-، للتدريس في القنفذة، جاء في طيات الرواية مخالفات وإيحاءات كثيرة عن المنطقة لا نقرها ولا نؤيده ولكن بها نسبة عالية من الحقيقة عن الحياة المعيشية والاقتصادية وحول العادات والتقاليد بالعُرْضِيّات، حين عزمت على كتابة مادة مقال بعثت برسالتي إلى جمال ناجي صاحب «الطريق إلى بلحارث»وسألته عن لقاءٍ قديم أجراه، تضمن معلومات عن منطقة الرواية أقر ناجي بما جاء فيه من انطباعات وذكريات، لم أكن أريد حينها إلا التأكد من معلومة، ولعلنا نستخلص مما كتبه لمحات عن العُرْضِيّات في مطلع التسعينات الهجرية السبعينات الميلادية من القرن الماضي ونقوم بالتركيز على الجوانب الإيجابية كما فعلنا في مقالنا السابق عن براري الحمى وقد نقل ناجي إلينا صور المشقة التي كان يجدها المسافر في ذلك الحين القادم من وإلى العُرْضِيّات بسبب الطريق المحفوف بالصعاب، ووعورة الدروب غير المعبدة وصعوبة التنقل في تضاريس تلك الأنحاء، والإشارة إلى الشاحنات أو الجيب التويوتا على وجه الخصوص كونه الوسيلة التي تعبر الطرق الرملية دون الغوص في الرمال.
وألمح الكاتب إلى وعورة السير ليلاً في بعض الطرق غير الواضحة المعالم، والمعاناة التي كان يلقاها المعلم في المدارس الحكومية الحجرية المستأجرة والمُقَاسَاة في أيام الصيف على نحو خاص بسبب درجة الحرارة العالية وكثرة الناموس وانعدام وسائل التبريد والتكييف حينها، وأود أن أبيّن هنا أن المعلمين غير السعوديين في تلك المرحلة كانوا يسمون -معلمو الضرورة-.
يقول صاحب الرواية في يوم قدومه إلى المملكة معلماً لمدرسة بلحارث بدأت الأزمة اللبنانية والانفجارات في بيروت وذلك يوم 13 أبريل 1975م، ورغم أن الطريق إلى بلحارث رواية من الخيال إلا أن التاريخ يبدو صحيحاً، ذكر الكاتب في صفحة 96 أن يوم الخميس في حقبة التسعينات الهجرية يوماً دراسياً وإجازة نهاية الأسبوع هي الجمعة فقط، ولم يكن قد أُقِرّ بعد الخميس إلا عقب ذلك بسنوات، يقول في صفحة 96 إن الصافرة تستعمل بدلاً من الجرس ومن البديهي فلا يوجد أجراس في تلك المدرسة لأن التيار الكهربائي لم يكن قد وصل لتلك البلاد بعد، أدركنا ذلك في العقد الأول من هذا القرن .
تحدث ناجي عن الزغاريد في بداية ص 110 حين تطرق لزغرودة الحزن وهذه الإشارة يفسرها حديثه فيما بعد عندما قال:»وتظل للزغاريد التي يطلقها النساء ويتداعى لها الرجال حضوراً فاعلاً، لأنها لم تكن زغاريد فرح بل كانت تنذر بوقوع كارثة، ولمست نزوعاً كبيراً لدى الرجال للحد من القيود، ويقول أيضاً أن حياتهم في العُرْضِيّات كانت محفوفة بالمخاطر وتعتمد على المغامرة، انتهى كلامه. وأظنه هنا قد بالغ في ذلك حين أردف إنه يذكر تلك المغامرة بكل اعتداد وإجلال، وقد أدركنا تلك المرحلة وكانت حياة الناس تكتنفها بعض الصعوبات ولكن لا تصل للقول عنها مغامرة فالوسائل الحديثة أصبحت حينها حاضرة، ولكن يبدو أنه يقارن حياة القرية بالمدينة التي قدم منها فالوضع يصبح مختلفاً حين نقارن الريف بالمدينة.
وأثبت ناجي من خلال الطريق إلى بلحارث معلومات كنت قد دونتها عن أوائل الطلاب في مرحلة التعليم النظامي في العُرْضِيّات وأكدها لي حين راسلته أن التلاميذ يلتحقون بالتعليم وهم كباراً في أعمارهم، يقول كنت أدرس طلبة تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة في المرحلة الابتدائية، في منطقة نائية هي قرية بلحارث التابعة لمنطقة القنفذة التعليمية، وكان التعليم يصلهم بجهد جهيد، وكانت وزارة المعارف في ذلك الوقت تحاول أن تصل بالتعليم لجميع القرى في الأطراف، لكن بملاحظتي لمستوى الذكاء الفطري عند معظم الطلاب، وما يكتنزونه من مواهب، أقمت لهم مسرحاً متنقلاً وبرزت ملامح النبوغ، وهذا يعني أنهم كانوا بأمسّ الحاجة إلى من يفجر الطاقات في دواخلهم، وهذا ما حدث فعلاً، وربما خرج اليوم منهم مبدعون في مجالات عدة، ولا أبالغ إذا ما قلت إن مجتمعهم قابل للتطور بشكل مذهل، لأنه يزخر بقدرات لمستها قبل 30 عاماً، وراهنت على أن المجتمع سيبرز سريعاً لأن الملامح تدل على ذلك. وبعد قراءة موجزة يظهر لي عددٌ من الملاحظات على رواية الطريق إلى بلحارث منها ما هو إيجابيٌ والآخر آسفٌ أن أقولَ سلبيٌ ولم يذهب الكاتب بعيداً عن سابقه إبراهيم نصر الله وسأوجزها فيما يلي:
1- وصف سوق ثلاثاء عمارة في تلك الحقبة ومرتاديه رجالاً ونساء والوافدين لذلك المجمع وطريقتهم في اللباس وحمل بعضهم مسدسات يتباهون بها، يقول هنا : (كان ما يلفتني لبس بعض الشبان الذين يحضرون سوق الثلثاء، حيث يرتدون قطعة قماش تغطي منطقة الحوض وبقية الجسم عريان، وشعرهم طويل ومربوط بقش منضود، ونجحت في إقامة علاقة معهم وكانوا يسكنون جبل ثربان، وكانت لهم طقوس في الختان والزواج لم تبرح مخيلتي حتى اليوم، أوحت لي بجبروت هؤلاء الرجال، وعوالمُهم عوالم حية ومثيرة).
2- أبان لنا معنى كلمة «أيام الفوح» المتداولة لدى أعراب تهامة حين
قال هي ثلاثة أيام من شهر حزيران تشتد فيها الحرارة بشكل كبير وينضج خلالها التمر، (لدى بني بحير وأهل يبه). وتلك إِلماحة جيدة من الكاتب لم يشر إليها فيما نعلم أحداً قبله.
3- ذكر أن البريد يصل كل يوم اثنين وينتظرونه بفارغ الصبر في المقهى الواقع على الطريق ووصف الرسالة البريدية وصفاً جميلاً هو واحة الغريب، انطلاقاً من ذلك الإحساس المشترك بأهمية الرسالة للغريب، وأن ساعي البريد يغيب عنهم كالقمر وينتظرونه من بداية الأسبوع، فيأتي في سيارة جيب رمادية اللون وصفه برجل أسمر يحمل الفرح ضاحكاً كخرير الماء في وادي بلحارث.
4- وصف أسقف البيوت القديمة والجدران والغرف والباحات الصغيرة كما فعل سابقه.
5- في صفحة 54 يعاب على الكاتب العنصرية المقيتة حين ذكر الألوان والسلالات، وما كان يجب أن يثيرها ويقوم بنشرها هكذا لا سيما أنه مجتمع قبلي، وقد أساء لذلك المجتمع الصغير الذي أحسن إليه يوماً ما.
6- لاحظتُ أن العدائية وعدم المصالحة كانت بارزة في شخصية كاتب وبطل الرواية ولديه اضطراباً نفسياً أفقده توازنه حيث كان يشعر في قرارة ذاته أنه مستلب مقصى منشطر بينه وبين ذاته والمكان والزمان.
7- لاحظته تعمّد الخطأ وكرر ذلك في كتابة أبو عايظ بحرف الظاء وليس الضاد وحين يحذف الألف في كلمة أبو هكذا (بوعايظ) وكذلك معيض يكتبها (معيظ) ويبدو أنه أخذها عن نطق الأهالي لها.
وأخيراً ومن خلال البحث في الطريق الى بلحارث ورواية براري الحمى وللإحاطة بجوانب الروايتين وجدت ناجي أصدر روايته في طبعات ثمان أما براري الحمى فقد اقتنيت طبعاتها الثلاث ولكن فوجئت بكتاب آخر لنصر الله عنوانه (السيرة الطائرة أقل من عدو أكثر من صديق) أفرد به عدداً من الصفحات عن العُرْضِيّات وقت أن كان معلماً هناك وأكمل ما قاله في براري الحمّى، وألفيت كتابه هذا يتضمن إضافات بل معلومات جديدة لم يذكرها في السابق، وإني أضع العنوان هنا لكي يضطلع المهتمين بما أكمل نصر الله وما كتبه عن العُرْضِيّات.
** **
- عبد الهادي بن مجنّي
bnmgni@hotmail.com