علي الصراف
القول بأن الإخوان المسلمين «تنظيم معتدل»، لا ينطوي على بهتان ظالم للحقيقة فحسب، ولكن التمسك به نوع من «العزة بالإثم» أيضاً.
قد يمكن، مؤقتاً على الأقل، تجاهل التاريخ الدموي لهذه الجماعة. كما قد يمكن صرف النظر عن طبيعتها «الجهادية السلفية»، وهي ذاتها التي تنتسب إليها باقي التنظيمات الإرهابية الأخرى.
وقد يمكن التخلي أيضاً عن إطلاق حكم على الجرائم الكثيرة التي ارتكبتها هذه الجماعة بحق قيادات من أعضائها بالذات، دع عنك الآخرين. كما قد يمكن تجاهل حقيقة أن تلك الجماعة أداة رئيسة من أدوات التكفير، والإرهاب الجماعي للغير، حتى ولو كانوا مسلمين، لمجرد الاختلاف عنها.
قد يمكن التغاضي عن كل هذا دفعة واحدة، وعن حقيقة أن هذه الجماعة أداة للتناحر الاجتماعي، ولكن ما يزال هناك أمر آخر يحسن التأمل في ما يعنيه من خطر. هو أن هذه الجماعة «مشروع» معاد لكل قيمة من قيم الوطنية، بل ولكل معنى من معاني وجود الدولة الحديثة. إنها جماعة، مثلها مثل «داعش»، تدعو إلى إقامة نظام للخلافة على أنقاض كل ما نعرفه من كيانات وطنية.
ماذا يعني هذا الأمر؟ إنه يعني رفضاً لكل الهويات الوطنية، ورفضاً للحدود بين الدول الوطنية، ولكل معنى من معاني السيادة أو الاستقلال فيها. إنه يعني رفضاً للقيم والأعراف والقوانين الدولية التي أرست الأساس لعالمنا الراهن. ومثلما أنه يعني رفضاً منهجياً لوجود مصر مثلاً، فانه وبالمقدار نفسه يعني رفضاً لوجود كل دولة أخرى (بما فيها قطر!).
ولقد أوجز مرشد الإخوان السابق مهدي عاكف هذه الحقيقة، في ثلاث كلمات، بأفضل مما يمكن أن تفعله 10 كتب، وذلك عندما أطلق شعاره الشهير: «طز في مصر».
الـ»طز في مصر» هذه، لم تكن زلة لسان عابرة، لأن الكتب المائة التي تعبر عنها لم تكن زلة قلم. إنها رؤية ومنهج قائم على تصور يقول إن المسلمين يجب أن يعودوا تحت سلطة خلافة واحدة، وإن أراضي المسلمين تشكل امتداداً واحداً لسلطة تلك الخلافة. وإن رجلاً من ماليزيا، يصلح أن يكون رئيساً لمصر.
ولقد أطلقها السيد عاكف، بينما كان الإخوان على رأس السلطة في مصر. فتصوّر! لأن المسألة أعلى من أي سلطة، حتى ولو كانت سلطة الإخوان أنفسهم.
هذه الرؤية، ذات الطبيعة المنهجية الصارمة، إنما تشكل إهانة وعدم احترام للشخصية الوطنية والحقوقية والقانونية التي يمثلها أي بلد يعيش فيه مسلمون.
مصر في المقابل، قيمة حضارية وتاريخية وثقافية وإسلامية وإنسانية قائمة بذاتها، بل وخصائص اجتماعية قائمة بذاتها أيضاً. مثلها مثل كل بلد عربي آخر، ليس الآن، بل وربما منذ ما قبل التاريخ.
كل هذا يجب أن يمحى بجرة قلم، لصالح رجل قد يأتي من ماليزيا، ليحكم أمة لا يعرفها ولا تعرفه.
وفوق أنها مشروع لنسف المجتمع من داخله، فإن «الإخوان مشروع لنسف الدولة الوطنية» أيضاً. هذا هو واحد من أهم أوجه الخطر الوجودي الذي تجسده هذه العصابة.
إذا توصلت إلى هذا الاستنتاج، فلك أن تتخيل عواقبه. ولك أن تتلمس أي نوع من الفوضى والحروب الأهلية سوف يسفر. ولسوف تدرك إنه مشروع لهدم الكيانات الوطنية، لمجرد أنها كذلك، لأنهم ينظرون إلى الوطنية كعدو أول.
لهذا السبب، خذل «الإخوان» مصر في كل معاركها الوطنية الكبرى. وللسبب نفسه، شقوا العصا على مشروع الاستقلال والتحرر نفسه.
لقد كانوا، وما يزالون، يمثلون مشروعاً لهدم الدول، لأن فكرهم قائم على نقضها، وعلى النظر إليها باستصغار واحتقار، مثلهم مثل «داعش» و»القاعدة» وغيرهما من تنظيمات الإرهاب.
وهذا ما لا يستطيع أن ينكره أحد، حتى ولو غلب عليه البهتان.
إنهم مشروع لخوض حرب أهلية، لأسباب سفسطائية، بعيدة كل البعد عن عالم اليوم، إنما ضد وجودك نفسه.
إنهم مشروع لإنتاج «هوية مضادة» تحوّل الوطنية إلى خصم للإسلام. فإذا كان المسلمون اليوم يحاولون أن يرتكزوا من أجل نهضتهم إلى جداري الإسلام والوطنية، فإن المعنى الوحيد للخصومة المفتعلة بين هاتين الركيزتين هو أن تلك الجماعة تسعى لخلق بيئة للتناحر الداخلي، فتهدم الجدارين معاً، جدار الإسلام وجدار الوطنية، ببعضهما بعضاً.
إنهم مشروع للدمار وسفك الدماء في معركة مفاهيم لا صلة لها بأي قيمة من قيمة التقدم والتحضر والتنمية والاستقرار. وهذا مشروع غير معتدل. إنه جريمة فحسب. ومن يدافع عنه، أو تأخذه العزة بالإثم حياله، إنما يرتكب الجرم نفسه.