د.عبد الرحمن الحبيب
مرَّ وقت كانت فيه السياسة القطرية تمارس لعبة مزدوجة، كأن تتحالف معك في موقع وتدعم خصومك في موقع آخر، بزعم الاختلاف الطبيعي. وإذا كان ليس واضحاً نجاح ذلك بالسنوات الماضية فالمؤكد فشله في المرحلة الراهنة. ما لم تدركه قطر هو أن المرحلة السابقة انتهت..
إذا لم تدرك القيادة القطرية أن تلك المرحلة انتهت فهي نفسها قد تنتهي.. الأدهى أنها حتى لم تدرك أن إنكارها لتصريحات أميرها التي قالت إنها مفبركة، لا معنى له، لأن المشكلة هي أنها لا تزال تمارس مضمون هذه التصريحات، فهي أنكرت بثها إعلامياً ولم تنكر مضمونها..
نحن في مرحلة جديدة.. ففي مراحل سابقة تلقت قطر العديد من التنبيهات من شقيقاتها، وتبعه تعهدات قطرية بتعديل سلوكها، لكنها كانت تعديلات لفظية في المقام الأول مع تعديلات شكلية وتهدئة إعلامية مؤقتة، مثل طرد بضعة قيادات متطرفة وتخفيف حدة منابرها الإعلامية، بينما ممارساتها ظلت مع الموقف ونقيضه في وقت واحد!
لماذا تمارس القيادة القطرية هذه اللعبة المزدوجة؟ ظناً منها أنها تكسب من كل الأطراف على طريقة المنشار في المثل المصري «طالع واكل نازل واكل». أوضح مثال لهذا المنهج «المنشاري» هو فتحها مكتب لإسرائيل وآخر لحماس وقبلها لمنظمة التحرير الفلسطينية. هي تريد كسب الجميع: أصوات «الممانعة» (الإسلاميون وفلول القوميين العرب)، والاعتدال العربي من جهة، وكسب اللوبي الصهيوني بأمريكا من جهة أخرى لدعمها في المواقف المحرجة..
وفي سياق هذا المنهج المنشاري تجد في قطر مكتب لطالبان التي تقاتل أمريكا، وفي نفس الوقت تجد قاعدة عسكرية أمريكية.. وعلى هذا المنوال توفر قطر منابر تحريضية للإخوان المسلمين، وتتعاون مع إيران ووكلائها، وتدعم حركات متطرفة أخرى؛ بالمقابل تنخرط مع المعتدلين من تحالفات خليجية وعربية ودولية ضد حركات الإرهاب وإيران ووكلائها في المنطقة..الخ. المحصلة حسب هذا الربح المنشاري أن قطر ستكسب الجميع حتى الإرهابيين!
هذه المرحلة انتهت، لكن السياسة القطرية تعيش ما يطلق عليه في علم النفس «حالة إنكار» ما بعد الصدمة إثر المقاطعة الصارمة من شقيقاتها المجاورة لها.. فإذا عدنا لإنكار السلطات القطرية لتصريحات أميرها التي أشعلت الأزمة، فهي الآن عادت لتؤكدها عبر إصرارها بمزيد من التعاون مع إيران وزيادة نبرة تأجيج الفتن في قناة الجزيرة والمواقع الإلكترونية التي تدعمها. فما هي حجتها هذه المرة؟
حجتها أنها دولة مستقلة ذات سيادة من حقها أن تمارس سياستها كما تشاء! وهل استقلالية الدولة تعني تنكرها للمعاهدات والاتفاقيات مع الدول، خاصة إذا كانت هذه الدول شقيقة مرتبطة ارتباطاً استراتيجياً وثيقاً بها ويربطها معها علاقة جوار ودم ولغة وتراث وتقاليد وثقافة وفنون..
لماذا يشدد وزير خارجية قطر على عدم التنازل عن أي من سياستها التي تغضب شقيقاتها، قائلاً باستطاعتنا الصمود! من أجل من؟ من أجل إيران وطالبان والأخوان المسلمين ومعها حركات الإسلام السياسي وفلول القوميين العرب، تريد قطر خسارة شقيقاتها.. هل هذه حصافة سياسية أم عناد يحفزه بضعة مستشارين ثورويين وافدين عليها بعدما مارسوا التخريب في بلدانهم التي أتوا منها..!؟
الآن، تلعب القيادة القطرية على وتر أنها دولة مستقلة ذات سيادة، ورغم أن حجم قطر الجغرافي والديموغرافي والسياسي يجعل هذه العبارة مثاراً للجدل، فإنه حتى أمريكا الدولة الأعظم نالت تقريعاً من حلفائها الأوربيين عندما خرجت من اتفاقية باريس للمناخ رغم أنها اتفاقية طوعية غير ملزمة! لا يمكن لدولة أن ترمي بالمعاهدات التي وقعتها عرض الحائط زاعمة أنها دولة مستقلة دون أن تنال عواقب هذا السلوك، إلا أن تعلن بوضوح مثلما فعل الرئيس الأمريكي ترامب الخروج من معاهدة المناخ الدولية، وحتى في هذه الحالة ثمة عواقب لاحقة.
إيران دولة مستقلة ذات سيادة وكذلك كوريا الشمالية، لكنهما تعانيان عزلة دولية وعقوبات اقتصادية جراء سلوكهما المناقض لكثير من اتفاقات الأمم المتحدة، ويرزح شعباهما تحت وضع معيشي بائس.. هل تريد القيادة القطرية المضي في هذا الاتجاه؟ ففي الأسبوع الماضي وحده أعلنت العديد من الدول إما مقاطعة كاملة أو تخفيض تمثيلها الدبلوماسي.. فقطر تتوجه نحو العزلة إذا استمرت في لعبتها المزدوجة..
يطالب البعض بمقارنة قطر بعُمان في علاقتها مع إيران؛ لكن المقارنة خاطئة، فالخط العماني واضح لا يقول الشيء ويفعل نقيضه؛ فضلاً عن أن المشكلة ليست بالعلاقة مع إيران، فالسعودية كان لها علاقة مع إيران إلى وقت قريب، ويمكن عودتها إذا عدَّلت إيران من نهجها العدواني، المشكلة بنوع هذه العلاقة، إضافة لمشكلات أخرى هي علاقة قطر بالمنظمات المتطرفة التي تناصب دول الخليج العربية العداء، وفي المنابر الإعلامية التي تؤجج هذه العداوة ضد دول الخليج العربية..
في المرحلة السابقة كانت الدول الخليجية الشقيقة المجاورة لقطر حليمة تتسامح معها لاعتبارات عدة: فمرة على أساس أن سلوكها طارئ وشاذ ستعدل عنه، ومرة لتفضيل الاحتواء الأخوي لشقيق متمرد مؤقتاً، وأخرى لتفادي الفرقة بين دول مجلس التعاون الخليجي ومنعاً لارتماء قطر في أحضان التطرف..الخ.. هذه المرحلة انتهت تماما، فهل تدرك القيادة القطرية ذلك؟