د. إبراهيم بن عبدالله المطرف
سوف نتطرق في التالي (وبإيجاز) إلى ثلاث تجارب في الدبلوماسية العامة، هي الدبلوماسية العامة الصينية، والدبلوماسية العامة الروسية، إضافة إلى عدد من التطبيقات الدولية والإقليمية والمحلية للدبلوماسية العامة.
ففيما يخص التجربة الصينية في الدبلوماسية العامة، فقد أسست جمعية للصداقة الصينية مع العالم في عام 1945 على أثر اندماج عشر جمعيات شعبية تعمل على مستوى البلاد، وكان يطلق على الجمعية عند تأسيسها «الجمعية الثقافية للشعب الصيني مع الخارج». وفي عام 1966، تغير اسمها ليصبح «جمعية الصداقة للثقافة الخارجية»، وتغير الاسم في عام 1969 أيضاً ليصبح الاسم الحالي وهو «جمعية الصداقة للشعب الصيني مع الشعوب الأجنبية».
تمثل الجمعية منظمة تمارس أعمال الدبلوماسية العامة بهدف توطيد أواصر الصداقة بين الشعوب، وتضطلع بمهمة ثمثيل الشعب الصيني في إجراء الاتصالات والتبادلات مع المنظمات والشخصيات العامة التابعة للدول الصديقة مع الصين في العالم إزاء القضايا والأوضاع السائدة على المسرح الدولي، من خلال ممارسة النشاطات الدبلوماسية العامة المتناسقة والشاملة، بتأييد ودعم من الحكومة الصينية وأوساط المجتمع المدني الصيني.
ولجمعية الصداقة للشعب الصيني مع الشعوب الأجنبية مهام أساسية تتمثل في:
- تطوير علاقات الصداقة والتعاون مع المنظمات والجمعيات المدنية والشخصيات في العالم.
- وتعزيز التفاهم المتبادل وتعميق روابط الصداقة من خلال تبادل الزيارات.
- وتنظيم الاحتفالات، وإقامة الندوات والمؤتمرات والمحاضرات وتبادل الوثائق والمعلومات.
- وتكريس الجهود لحفظ السلام العالمي والأمن المشترك للبشرية جمعاء.
- والتضامن مع القضايا العادلة للشعوب وصيانة سيادة الدول.
- ودعم التعاون الاقتصادي والاجتماعي والتقني بين الشعوب.
- وتشجيع التبادل الثقافي بين الشعوب والتعاون مع هيئة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.
وقد تمكنت الجمعية منذ تأسيسها من إقامة علاقات صداقة وتعاون مع (550) منظمة ومؤسسة في (130) دولة من دول العالم.
أما التجربة الروسية في الدبلوماسية العامة فقد بدأت مع مجيء جمعيات الصداقة في الاتحاد السوفييتي عام 1958، واستمر عددها في ازدياد. وقد كان الهدف من تأسيسها هو تفعيل الاتصال بين مواطني الاتحاد السوفييتي ومواطني البلدان الأخرى، من خلال تنظيم الفعاليات الثقافية والرياضية المختلفة. وقد كان لغياب اتحاد جمعيات الصداقة السوفييتية في موسكو خلال العقدين الماضيين سبباً مباشراً في زوال العديد من جمعيات الصداقة مع البلدان الأجنبية.
ونظراً لأهمية الدبلوماسية العامة ممثلة بجمعيات الصداقة في دعم التعاون بين الشعوب، ومن أجل التأكيد على وجود الجهة الرسمية المتخصصة والمعنية بتمثيل الشعب الروسي في علاقاته بشعوب العالم، وبهدف تنشيط الجمعيات الروسية للصداقة، عقد في موسكو، في مايو 2011، مؤتمراً لمناقشة موضوع الجمعيات الروسية للتعاون الأجنبي.
وقد أصدر الرئيس الروسي آنذاك دميتري مدفيديف خلال المؤتمر أمراً بتشكيل اتحاد جديد لجمعيات الصداقة مع شعوب البلدان الأجنبية، يشارك في تأسيسه كل من وزارة الخارجية، والجمعية الروسية للتعاون الأجنبي، والوكالة الفيدرالية للتعاون مع البلدان الأجنبية، على أن تكون المهمة الرئيسة له هي مساندة جمعيات الصداقة الروسية في تحقيق أهدافها من خلال تقديم الدعم المادي والمعنوي لها، حيث تقرر أن تقدم للجمعيات المنح المالية اللازمة من خلال صندوق خاص بالاتحاد لتنفيذ برامجها وفعالياتها في الداخل والخارج، وأن يتعاون الاتحاد الجديد في تنفيذ مهامه مع جميع الجهات الرسمية وغير الرسمية المعنية، مثل ديوان الرئاسة، والحكومة، وغرف التجارة والصناعة، والمجالس الاجتماعية وغيرها.
وهناك أمثلة تطبيقية وتجارب عديدة في الدبلوماسية العامة على المستوى الإقليمي، اخترنا منها على سبيل المثال لا الحصر، نماذج من كل من المملكة العربية السعودية، والكويت، ومصر، والبحرين.
فهناك مثالان لتوظيف المملكة العربية السعودية لدبلوماسيتها العامة، الأول والأبرز منهما هو حوار الملك عبدالله بن عبدالعزيز - رحمه الله - مع الصحفي الأمريكي توماس فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز في فبراير 2002، والذي أعلن فيه الملك عبدالله عن إعداده لمشروع مبادرة سلام عربية.
فلقد أطلقت تلك المقالة بطريقة أثارت موجة من النقاش الإقليمي والدولي العام، حيث قام عدد من الشخصيات السياسية الدولية البارزة بالتعليق على الموضوع، بما فيهم جورج بوش الابن، الرئيس الأمريكي آنذاك، والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون. كما قام خافيير سولانا، مبعوث الاتحاد الأوروبي بزيارة للمملكة لمقابلة الملك عبدالله ومناقشته في خطاب كان أعده سولانا لإلقائه حول المبادرة. وقامت صحيفة نبويورك تايمز بالإشادة بالمبادرة في افتتاحيتها.
وقد جرى كل ذلك، وخطاب الملك عبدالله - رحمه الله - لم يغادر درج مكتبه.
حقيقة الأمر، أن الحكومة السعودية، وفق مرئيات المراقبين والمحللين السياسيين والإستراتيجيين، قد نجحت في جذب الرأي العام العالمي حول مبادرة لم تولد بعد، وأنه بدأ العالم ينظر إلى المملكة على أنها صانعة سلام بدلاً من المنظار الذي كان ينظر إليها من خلاله. وقد أبرز هذا الاستخدام السعودي للدبلوماسية الناعمة قدراته الكامنة على الاستفادة القصوى من أدوات الدبلوماسية العامة والناعمة في سياستها الخارجية، عندما تدعو الحاجة لذلك.
والمثال السعودي الآخر لاستخدام الدبلوماسية العامة هي حملة العلاقات العامة التي قامت بها المملكة ممثلة في سفارتها في واشنطن العاصمة الأمريكية في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهي الحملة التي نفذتها شركة كورفيس للعلاقات العامة، والتي أكدت في ختام حملتها على أهمية توظيف الدبلوماسية العامة في خدمة المصالح والسياسة الخارجية السعودية.
أما في الكويت، فقد تمثلت الدبلوماسية العامة بالجهود التي بذلتها «لجنة الأسرى والمفقودين الكويتيين» أثناء الغزو العراقي للكويت وبعده، والتي يعتقد بأنها لم تحقق النجاحات المطلوبة لعدم مشاركة شخصيات مناسبة في جهود اللجنة، وتجنب اللجنة للدبلوماسية السرية، واستخدام الإعلام بطريقة تدل على أنه يتحدث عن اللجنة أكثر من الأسرى.
وفي مصر، فقد وظفت الدبلوماسية العامة بعد ثورة 25 يناير إزاء تطوير العلاقات مع دول حوض النيل الإفريقية، وذلك من خلال قيام وفد الدبلوماسية العامة المصري، الذي ضم رؤساء أحزاب سياسية وعدد من مرشحي الرئاسة ووزراء سابقين وعلماء وشخصيات عامة وبعض شباب الثورة، الذين قاموا بزيارات إلى عدد من دول حوض النيل ما زالت الصورة السلبية التي شابت علاقات مصر الخارجية بهذه الدول خلال عهد الرئيس مبارك. وقد حقق الوفد نجاحاً ملموساً في تقريب وجهات النظر مع تلك الدول، ما أدى إلى تأجيل التصديق على الاتفاقية المتعلقة بتقسيم مياه النيل.
أما التجربة البحرينية فقد جاءت كرد فعل شعبي على ما شهدته مملكة البحرين من أحداث مؤلمة أضرت بالوحدة الوطنية. وقد برز توظيف وسائل الدبلوماسية العامة في البحرين، من خلال الحملة الشعبية التي تحركت على الساحتين المحلية والدولية. وقد شارك في هذا التحرك الدولي مجموعات من الشخصيات البحرينية، التي حددت الدول والمنظمات التي اتخذت مواقف محددة من الأوضاع في البحرين، وانطلقت تجاهها لمخاطبتها، وقد حققت تلك التجربة الكثير من النجاح.
وسوف نتحدث في المقالة القادمة عن «التجربة الأمريكية» في الدبلوماسية العامة.