«الجزيرة» - الأحساء - أحمد المغلوث:
في أحد أيام رمضان الحارة جداً. وقبل أن يخرج من باب بيتهم متوجهاً للمدرسة شعر بعطش شديد. واتجه بدون تردد إلى رواق البيت، حيث كرسي «المصاخن» ولم يجد الكأس الخزفي بجواره. عندها توجه إلى غرفة المطبخ ليبحث له عن كأس ما. حمل الكأس وكان من الزجاج المزدان بالزهور. ولفت انتباهه لحظتها وجود زجاجة شراب التوت الأحمر بجواره فلم يتردد أن صب له في الكأس كمية منه وذهب للكرسي «المصاخن» وراح يضيف الماء على شراب التوت الذي في الكأس وراح يهزه قبل أن يشربه فتطايرت قطرات من الشراب لتتناثر على ثوبه «الللاس» السكري. راسمة عليه لوحات تجريدية معاصرة وبأحجام مختلفة. لم يعط أهمية لما حدث لثوبه وتلوثه برسوم شراب التوت. بقدر ما شعر لحظتها بأنه استطاع أن يطفئ نيران عطشه .حمل حقيبته الخضراء التي تحمل شعار شركة النفط والتي أهداها إليه ابن خالته الذي يعمل في الشركة. وخرج من البيت. وما هي إلا خطوات وإذا بأحد المارة «ببشته» المتهالك يحمل في يده اليمنى قطعة لحم أحسن ربطها (بخوصة) من سعف النخيل وهي تتدلى وتتمايل مع كل حركة من يده. كان الرجل طويلاً وضعيف البنية وبدا أن بشته قصير عليه جداً. فما إن اقترب منه إذا به ينظر إليه وإلى ثوبه ويبتسم بخبث. حتى ظهرت عليه علامات تعجب غريبة. وأتم الرجل الطويل سيره وهو ما زال ينظر إليه بين حين وآخر. وواصل (دحومي) سيره إلى مدرسته عندها صادف أحد زملائه قادماً هو الآخر من بيتهم متجهاً إلى مدرستهم. وإذا به «خلودي» الذي يجلس خلفه في المقعد فارتاحت أساريره بعد أن اطمأن إلى أنه وجد أحداً من زملائه يسير معه خصوصاً وهو يعرفه ويرتاح إليه، بل كان أحد الأصدقاء المقرّبين له في لعبة (الخطة). وليقطع معه المسافة المتبقية إلى المدرسة. تهلّل وجهه وهو يرحب به مردداً: يا هلا خلودي يا ليتني شفتك البارحة كان دعوتك لبيتنا تأكل معنا «غبقة» تأكل أصابعك وراها كبسة بالدجاج المحشي بالبيض. فرد عليه خلودي الله يخليك كأني أكلت معاكم. لكن قول لي: منين لثوبك هاللون الأحمر.. لا تكون «فاطر» وشارب لك شراب توت من وراء أهلك. يا ويلك من أبوك لو علم بما فعلته. يمكن أبوك يهون من مدرس الدين لو عرف أنك ارتكبت إثماً عظيماً خاصة ويوم أمس علمنا أهمية الصيام وضرورة المحافظة عليه: نسيت اللي قاله لنا وحفظنا إياه: إن من أفطر في نهار رمضان متعمداً من غير رخصة من مرض أو سفر أو حيض فقد ارتكب إثماً عظيماً، وأتى كبيرة منكبائر الذنوب بانتهاكه. حرمة ركن من أركان الإسلام. فارتبك دحومي واصطكت فرائصه وكاد يسقط من الخوف عندما تذكر أستاذ الدين.. وكم هو شديد. فكيف لو شاهد ثوبه المزدان بلون التوت على طول بيرسله للمراقب ويستلمه بعدها وهات يا ضرب بالخيزرانة. مضت لحظات كالدهر وتنفس الصعداء.. وتمالك نفسه وقال لخلودي: صدقني ما كان عندي وقت أجلس أمي علشان تغسل ثوبي. خفت أتأخر عن المدرسة. وآكل علقة «بالفلكة» قلت أحسن شيء أروح المدرسة وأحط الشنطة على صدري وإن شاء الله ما أحد يلاحظ آثار «شراب التوت» ولا أحد يموت..؟ فغمغم خلودي باسماً وقال: والله فكرة بس انتبه طول وقت المدرسة وأنت حاط شنطتك على صدرك. فقال دحومي وهو يحسن وضع شنطة على صدره وهو يمسك بها بكلتا يديه. إنك دائماً أبو الأفكار ولا تخلي الواحد يحتار. من حسن الحظ لم يكن هناك طابور صباحي من أجل الشهر الكريم. دخلا الفصل معاً وكان دحومي يسير خلف خلودي وكان يلتصق به من الخلف حتى لا أحد يلاحظ آثار شراب التوت على ثوبه. مضت الحصة الأولى والثانية بسلام ولم يخرج من الفصل في الفسحة تحاشياً من أن يشاهده أحد. وعندما جاءت الحصة الثالثة إذا بمدرس الدين المصري يدخل الفصل بعمامته البيضاء الملفوفة على طربوشه الأحمر. حيّا المدرس التلاميذ وبدأ من المقاعد الأولى في الفصل طالباً بأن يخرج كل تلميذ لسانه ليرى هل هو فاطر أم صائم. فلكز خلودي زميله دحومي وهو يقول له بصوت خفيض: عسى فركت لسانك قبل ما جيت المدرسة.. جاك الموت يا تارك الصلاة..؟!