تقديم المترجم: يسعدني تقديم ترجمتي لهذه الدراسة النوعية المهمة للبروفيسور مائير هاتينا. البروفيسور هاتينا هو أستاذ في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، الجامعة العبرية في القدس. ونشرت الدراسة في مارس 2011:
فقد ساندت الولايات المتحدة مساندة غير مشروطة إقامة دولة يهودية، وهو أمر ينطوي على التخلص من المسلمين وثقافتهم. ولذلك، فقد أثبت الإسلام نفسه بأنه أكثر فضيلة من أية ديمقراطية غربية من الناحية النظرية والناحية التاريخية. (51)
وكانت القضية التي أثارها عبد الرازق قبل ربع قرن تقع في قلب الجدال بين خالد وبين الغزالي: هل الحكم جزء لا يتجزأ من الإسلام؟ وفي الواقع، أكد الغزالي، في مقدمة كتابه، أن العديد من حجج خالد كانت مماثلة تماماً لأفكار علي عبد الرازق. (52) والدراسة المقارنة لكلا النصين تكشف حقاً أن خالداً أعاد تدوير الأفكار الأساس لعبد الرازق بشأن قضايا النبوة والحكومة في الإسلام، وكلاهما اعتبر النبي زعيماً روحياً وليس زعيماً سياسياً، وكلاهما شدَّد على الفرق الوظيفي بين الدين وبين الدولة. ولكن بعكس عبد الرازق، لم يكتف خالد بتقويض المفهوم التقليدي للإسلام كدين ودولة فقط. ولكنه أكد أيضاً بصراحة أن الحكومة الوطنية أفضل من الحكومة الدينية. كما أن البعد السياسي في كلا الكتابين عكس تأكيدات مختلفة؛ فقد صدر كتاب عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» على خلفية طموحات الملك فؤاد، المدعومة من قبل الأزهر، للفوز بلقب الخلافة لنفسه. وسعى عبد الرازق، المؤيد لحزب الأحرار الدستوريين، إلى إحباط طموحات الملك عبر إثبات أن الخلافة لا حاجة إليها. ثم بعد ربع قرن، كتب خالد «من هنا نبدأ» ردا على تزايد نفوذ جماعة الإخوان المسلمين ومطالبتها بإلحاح متزايد تأسيس حكومة إسلامية في مصر لكي تحكم بالشريعة الإسلامية. وسعى خالد، الذي ينتمي إلى الجناح اليساري في حزب الوفد، إلى مهاجمة جماعة الإخوان وتفنيد هدفها المتمثل في استعادة دور الإسلام كمركز للسلطة السياسية. وتجاوز خالد مبحث عبد الرازق الكلي للهيكل السياسي المثالي (أي الخلافة الكاملة أو كيان صغير خاص)، وركز النقاش على الاعتبارات الجزئية والتفصيلية للأساس التشريعي للدولة، سواء كان الشريعة الإسلامية أم القانون الوضعي.
الفرق في التركيز بين الكاتبين يعود إلى تحول جرى في الفكر الإسلامي بين الحربين العالميتين أدى إلى الابتعاد عن مفهوم الأممية الإسلامية المتجسد في الخلافة، وقبول فكرة الدولة القطرية الحديثة والتي صاحبها أحياناً محاولات لتأسيس الدولة على الشريعة. (53) ونبعت هذه التغييرات في المقام الأول من تحول في مركز السلطة الدينية، من المؤسسة المحافظة التي تآكلت قوتها من بداية القرن التاسع عشر فصاعدا، إلى جماعة الإخوان المسلمين، وهي حركة شعبية تسعى إلى الحصول على السلطة السياسية وليس مجرد استعادة قوة الإسلام. ويعتقد الإخوان أن السلطة السياسية «أحد عناصر، إن لم يكن العنصر الأكثر أهمية في الإسلام، لأن الشريعة المنزلة عبر الوحي تحتاج دولة لتنفيذها». (54) وبرزت في كتابات حسن البنا (1906-1949)، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، الأهمية الأساسية للخلافة وضرورة استعادتها؛ ولكنها أكدت على ضرورة الصبر والتحضير اللائق من خلال تعزيز الروابط الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بين الشعوب المسلمة. (55) كما أن قبول وجود الدولة الحديثة بحكم الأمر الواقع لم يؤد فقط إلى برود الحماس الإسلامي لجماعة الإخوان المسلمين؛ بل أبطل - ببساطة - التوتر الكامن في برنامجها بين مبدأ الكيان الوطني الإقليمي وبين مبدأ مجتمع المؤمنين العالمي.
ومثل كتاب عبد الرازق في وقته، أدى كتاب خالد بعد 25 عاماً إلى صدور انتقادات حادة وغضب عارم؛ وهو ما كشف أن مصر، بالرغم من الخطوات الطويلة والعديدة التي سلكتها نحو التحديث والتغريب، كانت لا تزال في حالة اضطراب وتشويش بخصوص هويتها الأصلية والأصيلة. ويشكل كتابا عبد الرازق وخالد تجليات راديكالية (متطرفة) للنضال الديمقراطي الليبرالي على توجه مصر وهويتها السياسية والثقافية؛ ولكن أهمية كتاب خالد في هذا النزاع كانت أعظم، لكونه كتب على خلفية تصاعد الاستياء السياسي والاجتماعي في أواخر الأربعينيات. كما تراجع عبد الرازق لاحقاً عن رؤية الإسلام بوصفه ظاهرة روحية في المقام الأول، مع أهمية ضئيلة في إدارة الحياة الدنيوية. (56)
الحكومة تسمح بتوزيع «من هنا نبدأ» بقرار من المحكمة!
وهاجم خالد أداء الحكومة الفاشل، ووصفها بأنها «طاغية ومتغطرسة»، واتهم أنه حتى في «عصر الشعوب» فإن المصريين يشعرون بأنهم رعايا وليسوا مواطنين. ومتمسكا بالديمقراطية التمثيلية بشدة، قدم اقتراحات مختلفة لتعزيز أداء الحكومة المصرية، وقال «إن أفضل علاج لعيوب الديمقراطية هو المزيد من الديمقراطية». (57) وسمحت الحكومة، من جهتها، بتوزيع كتاب «من هنا نبدأ» بقرار من المحكمة استند على كل من المصادر الدينية التقليدية، وكذلك حرية التعبير التي يحميها الدستور. ووجدت المحكمة أن خالدا لم ينكر الدين نفسه؛ بل ندد بفرضية استغلال الدين لتحقيق مكاسب شخصية. وفيما يتعلق بمسألة الحكومة، استشهدت المحكمة بعدة أحاديث، وكذلك بمقدمة شيخ الأزهر المراغي لكتاب هيكل «حياة محمد» وجميعها تشير إلى أن رسالة محمد الإلهية كانت نشر وحماية دين الله دون تحديد طريقة للقيام بذلك. (58) وهكذا، جرى العثور على مساندة لزعم خالد بأن النبي لم يكرس نظام حكم محدد، وأن أية حكومة، بما فيها تلك التي تعمل على أساس إنساني وعقلاني، يمكن تعريفها كحكومة إسلامية شرعية؛ ولكن المفارقة المدهشة هي أن استناد القرار - جزئياً - على رأي المراغي كان يعني أن المحكمة صادقت – دون قصد - على الرابط الضمني بين الدين وبين الدولة في الإسلام على النحو الذي تجسد في كون النبي حامي الدين وحاكم الأمة معاً.
يتبع
ترجمة وتعليق: د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com