د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
تتنزَّل الإلهامات والفتوحات على أصحابنا في رمضان، فنراهم يولون اهتماماً مفاجئاً بالصحة، ولذا فهم يتناقلون الرسائل ويتبادلون النصائح، ويتداولون النقولات والتحذيرات عن الأطباء والمتخصصين، فهذا مفيدٌ للقلب وذاك مضرٌّ له، وهذا يرفع السكر وذاك يخفضه، وتلك لا يجوز أن تستقبلها المعدة أولا، وهذه يجب أن تفطر عليها ابتداء، وهكذا تتحول الحوارات بين الأصحاب إلى وصفاتٍ طبيةٍ ونصائح غذائيةٍ وتحذيراتٍ مؤكدةٍ تولي عنايةً بالغةً ومفاجئةً بالصحة، والاهتمام بها، والحرص على الابتعاد عن كلِّ ما يضرُّها ويؤذيها.
وتزداد ثقافة أصحابنا الصحية في هذا الشهر الكريم، فتتفاجأ بأنَّ (الممشى) الذي بجوار بيتك أضحى غاصَّاً بممارسي رياضة المشي، خاصَّةً قبل الإفطار، وهو المكان الذي ظلَّ أحد عشر شهراً يشكو انعدام المرتادين، بل إنَّ بعض أصحابنا لا يقف عند هذا الحد، فيشترك في نادٍ صحيٍّ طوال الشهر، يحرص على زيارته قبل الإفطار أو بعد التراويح، متفنِّناً في ممارسة أنواع الرياضات فيه، ومجتهداً في أدائها على أكمل وجه، تلك الرياضات التي لم يعرفها جسده عاماً كاملا.
والإشكالية الكبرى بعد هذا أنَّ أصحابنا الرياضيين يُصابون بغيبوبةٍ تامةٍ عن هذه الثقافة في المساء، فلا يتردَّد أحدهم في التهام ما لذَّ وطاب من المقليات والحلويات التي صارتْ جزأً لا يتجزأ من ثقافتنا الرمضانية، هذه الثقافة البائسة التي جعلتْ من هذا الشهر الكريم وقتاً للتفنُّن في العبث بصحتنا وصحة أبنائنا، من خلال تعبئة البطون بأشدِّ الأطعمة فتكاً بالصحة، كما جعلته مساحةً زمنيةً تائهة، تضيع في متابعة المسلسلات والمسابقات التي زادتْ من كسلنا وإهمالنا لأغلى ما نملك: الصحة.
إننا نعاني حقاً من نقصٍ كبيرٍ في ثقافتنا الصحية، وانعدامٍ شبه تام في الوعي بأهمية العناية بأجسادنا التي أمستْ مترهِّلةً منتفخةً بسبب نوعية طعامنا وأوقاته وكمياته، وبسبب تكاسلنا عن ممارسة الرياضة والانتظام فيها، وهو سببٌ رئيسٌ من أسباب جهلنا بالثقافة الصحية، مما جعل مجموعةً كبيرة من الأمراض تتفشَّى في مجتمعنا المحلي، وترهقنا صحةً وجهداً ووقتاً ومالا.
إنَّ الحديث عن مثل هذه القضايا والإشارة إلى خطورتها لا يحتاج إلى متخصص، إذ يكفي أن تطلع على الدراسات والإحصاءات التي تؤكِّد جميعها ارتفاع معدلات السمنة في مجتمعنا المحلي ذكوراً وإناثا، صغاراً وكبارا، وتشير إلى انتشار أمراضٍ وأزماتٍ صحيةٍ لم تكن معروفةً بهذه الصورة التي نراها اليوم، حين لم يكن أجدادنا يعرفون هذه السموم التي تقتلنا ببطء، وترهق صحتنا يوماً بعد يوم.
إنَّ أهم ما يجب أن ندركه في هذا الموضوع هو أنَّ اهتمامنا بصحتنا وصحة أبنائنا ينبغي أن يكون منهجاً منتظماً طوال الحياة، وإستراتيجيةً لا تنتهي ما دمنا على هذه البسيطة، ليس مرتبطاً بزمانٍ معينٍ أو مكانٍ محدَّد، ولا يمكننا فعل ذلك دون أن يكون لدينا رصيدٌ ثقافيٌّ متينٌ في كلِّ ما يتعلَّق بصحتنا وطريقة الاهتمام بها، وألا نؤجِّل مثل هذه القرارات التي أعدُّها مصيريةً وفي غاية الأهمية، إذا ما أردنا أن نسهم في بناء المجتمع ورقيه، حتى لا ننشغل عنه بأمراضنا ومشكلاتنا الصحية.
كما أنَّ هذا الاهتمام يجب أن يمتدَّ إلى أبنائنا، الجيل القادم الذي أخشى عليه من تكالب هذه المشكلات واختناقه بها، خاصَّةً مع افتتانه بهذه المطاعم التي سمحنا لها بأن تملأ بطونهم بقنابل موقوتة، ليس لها أيُّ قيمةٍ غذائيةٍ صحية، بل تسهم في زيادة أوزانهم، وترهيل أجسادهم، وامتداد (كروشهم)، وإثقال قلوبهم بالشحوم، وانسداد شرايينهم، وغير ذلك من الأمراض التي حضرتْ في غياب الثقافة الصحية، ونقص الوعي بضرورة العناية المستمرة بممارسة الرياضة، والمكوث الطويل أمام الشاشات، والتكاسل عن إجراء الكشوفات الطبية الدورية التي تكون سبباً بعد الله في حماية الرأس من الفأس. إنَّ نظرةً واحدةً في أجسادنا المترهلة، و(كروشنا) البارزة، (ولياقتنا) الضعيفة، وأنفاسنا المتلاحقة عند أدنى جهد نبذله، تؤكد أننا مقصرون جدا في الاهتمام بصحتنا، ومتأخرون كثيرا في العناية بهذه الثقافة المهمة معرفةً وتعليماً وتطبيقا، أما زينا الرسمي، وثيابنا الفضفاضة، وملابسنا الواسعة التي تكفَّلت بإخفاء (نتوءات) أجسادنا المتشحمة، و(تكريشنا) الذي يزداد بروزا يوماً بعد يوم، فينبغي ألا يخدعنا؛ لأنَّ الأمراض والكوارث الصحية مختبئةٌ في أعماق هذه الأجساد المترفة. إنَّ كلَّ تهاونٍ يمكن قبوله إلا التهاون في الصحة، ولن تنفع الأعذار التي نختلقها لعدم اهتمامنا بالطعام الصحي أو ممارسة الرياضة حين يداهمنا السكري، أو ينتفخ علينا القولون، أو نصاب بالكوليسترول، أو يحصل لأحد شراييننا انسداد، أو غير ذلك من مشكلاتٍ صحيةٍ يمكن أن تهج م علينا بسبب إهمالنا للثقافة الصحية، والاكتفاء بالتنظير لها ورسم الأحلام والآمال لما نريد أن نفعله دون أن يكون لذلك تطبيق على أرض الواقع.