-1-
حظي (البعد الثقافي) بمساحة واسعة في رؤية السعودية 2030، وقد جاءت الإشارة إليه أولاً في فقرة (الركائز)، وتحديداً عند الإشارة إلى العمق العربي والإسلامي للمملكة، وثانياً في فقرة (المحاور)، وتحديداً في المحورين: الأول (مجتمع حيوي) والثالث (وطن طموح)، إذ تفرعت الرؤية فيهما باتجاه :
- تعزيز القيم الإسلامية من خلال تأصيل قيم الوسطية والتسامح والعدالة والشفافية وغيرها.
- تعزيز الهوية الوطنية من خلال غرس المبادئ والقيم الوطنية، والمحافظة على تراث المملكة الإسلامي والعربي والوطني، والتعريف به، والعناية باللغة العربية.
- دعم الثقافة والترفيه من خلال تطوير وتنويع فرص الترفيه، وتنمية المساهمة السعودية في الثقافة والفنون .
- الارتقاء بجودة الحياة في المدن السعودية من خلال تحسين المشهد الحضري، وتعزيز حصانة المجتمع ضد الأخطار التي تهدّده .
- تحسين مخرجات التعليم، وتوفير معارف نوعية، والتوسع في التدريب، وزيادة مشاركة المرأة في سوق العمل، وتمكين (ذوي الاحتياجات الخاصة) في العمل، وتعزيز ودعم ثقافة الابتكار، واستقطاب المواهب العالمية، إضافة إلى تحسين إنتاجية الموظف الحكومي، وتطوير الحكومة الإلكترونية، وتعزيز الشفافية في جميع القطاعات الحكومية، ودعم قنوات التواصل مع المواطنين، وتشجيع العمل التطوعي، وحثّ الشركات على القيام بمسؤولياتها الاجتماعية، وتعزيز مسؤولية الفرد والمجتمع .
-2-
ما سبق يمثّل جانباً مهماً من البعد الثقافي الذي أتحدث عنه هنا، وهو حاضرٌ في الرؤية بوضوح، لكن ماذا عن كيفية استغلاله؟ وما البرامج التي نهضت أو ستنهض به؟ وما حجم الأسئلة الثقافية التي استهدفت الرؤية حتى الآن؟ وما نسبتها إلى الأسئلة الاقتصادية التي لا حدّ لها؟
ومن زاوية أخرى: ما حدود إسهام المثقفين في التفاعل مع الرؤية حتى الآن؟ وما نسبته إلى إسهام الاقتصاديين مثلاً؟ وماذا قدمت الجامعات والمؤسسات الثقافية في هذا السياق؟ وما مساحة ما قدمته إلى ما قدمته مؤسسات أخرى كـ (الطاقة) و(التجارة والاستثمار) و(العمل والتنمية الاجتماعية) و(الخدمة المدنية)؟
إنّ مجرّد التفاعل مع هذا النوع من الأسئلة يعيد إلى البعد الثقافي (اعتباره)، ويمنحه جزءًا من الاهتمام في ظلّ سيطرة البعد الاقتصادي على مفاصل حواراتنا وتفاصيلها، ويعمّق القناعة الحكومية والشعبية بأهمية المسارعة في استثماره ليكون أحد العوامل الفاعلة في رؤية السعودية 2030، خاصة أنّ أكثر البرامج المعلنة حتى الآن لا تخدم إلا البعد الاقتصادي، وأكثرها وضوحاً للمتلقي هي البرامج الاقتصادية، وأما (الثقافي) أو الثقافي في هذه البرامج فما زال غامضاً حتى على المثقفين أنفسهم، وهذا في رأيي يفوّت علينا فرصة مهمة (قد لا تتكرّر في المستقبل) لمراجعة وتطوير بنيتنا الثقافية!
-3-
إنّ تحويل البعد الثقافي إلى عامل فاعل في رؤية السعودية 2030 يتطلّب منا أمرين مهمّين، أولهما: إطلاق برامج ثقافية خالصة لا تختلف في بنائها ودعمها عن البرامج الاقتصادية التي أُطلقت خلال السنة الأولى من عمر الرؤية، وثانيهما: تفعيل الأدوات الثقافية في تنفيذ البرامج الأخرى ذات الطابع الإداري والاقتصادي. ومثل هذا الإجراء سيحقّق لنا عدداً من الأهداف، لا يستطيع العامل الاقتصادي وحده تحقيقها، من أهمّها:
- وضع القاعدة الثقافية الرئيسة للرؤية، المتمثّلة في بناء منطق جديد للإنسان، يمكّنه من التعاطي مع منطلقاتها وأدواتها وغاياتها، وذلك عبر منظومة متكاملة من البرامج التعليمية والإعلامية المتنوّعة والجادة .
- توجيه العلاقات (الواقعية والافتراضية) في المجتمع لتكون خادمة لأهداف الرؤية، بحيث تُبنى تعليمياً وإعلامياً وقانونياً على قيم التعدّد والتسامح، وتحقيق هذا الهدف سيمكّننا من الدمج الواعي بين المحافظة (التي تتبناها أغلبية المجتمع) والانفتاح (الذي تتطلّبه الرؤية ويحتاجه العامل الاقتصادي)، وسيتيح لنا أيضاً إمكانية استثمار مساحات التباين الفكري والاجتماعي في تنويع الخيارات على المستويات كلّها، وسيمنحنا فرصة جيدة (موضوعية) لمراجعة المواقف الفكرية والفقهية والعادات الاجتماعية التي كانت وما زالت عقبة في طريقة التحوّلات الإيجابية .
- منح الفرد الثقة التي يحتاجها لمناقشة قضايا وطنه وهواجس مجتمعه انطلاقاً من (المعرفة) لا من (السائد)، وتحقيق هذا الهدف سيفتح البابَ لعمل ثقافي ضخم، يجعل الرؤية واحدة من أهمّ مفردات حوارنا الفكري والثقافي والاجتماعي، ويدفع باتجاه تأصيل مبادئ مهمة في مشهدنا الثقافي كحرية التفكير والتعبير (على سبيل المثال) .
وكلّ ما سبق (عيّنة) من الأهداف الكبرى التي ستحقّقها الرؤية ببرامجها الثقافية، ولن تستطيع البرامج الثقافية تحقيق مثل هذه الأهداف إلا إذا أحيطت بمثل الأهمية ا لتي أحيطت بها البرامج الاقتصادية في مراحلها الخمس : التخطيط، والصياغة، والإعلان، والتنفيذ، والتقويم.
وكل عام أنتم بخير.
- د. خالد الرفاعي