يرى كثيرون أن عصر الدولة الأموية كان ذا وجهٍ عربي صريح رغم أن لغة البريد كانت فارسية، قبل عبدالملك بن مروان، كما يقول بعض المؤرخين، بسبب توفر الكتّاب والموظفين الذين يتقنون الأعمال المكتبية للحكّام باللغة المذكورة دون العربية. ورغم وجود جماعاتٍ غير عربية في الشام ، مركز هذه الدولة، وتواجد اتباع ومراكز جميع الأديان السماوية والنحل الفكرية المشرقية وبعض اللغات العتيقة، إلا أن الدولة الأموية كانت بالفعل ذات ملامح عربية خالصة بخطابها الثقافي وفعاليات مجتمعها ونخبها السياسية والأدبية والدينية وحتى العسكرية.
ولكن الدولة العباسية التي قامت على أنقاض الدولة الأموية وعلى تناقضٍ عميق في الأيديولوجيا السياسية وفي طبيعة تكوين الحشد العسكري المواكب وفي المنطلق والمآل الجغرافي للحركة العباسية،كانت وبقيت ذات ملامح مختلفة ووجهٍ موشوم، رغم أن العباسيين والأمويين يرجعون إلى أرومة واحدة قريبة العهد.
قامت الدولة العباسية في العراق، وهو ملتقى أعراق وموطن لغاتٍ وحضاراتٍ متتالية وتراكمٍ ثقافي كثيف، وكان موقع مركزها أقرب ما يكون إلى ما كان يدعى بالعراق الفارسي. ونظراً لما كان رائجاً من أن الدولة الأموية كانت ذات عصبية عربية فكان من الطبيعي أن تتوسل الدعوة العباسية كل الأدوات والقوى المناوئة، كما كانت العناصر الحانقة على عروبة الدولة الأموية هي الأخرى تلوذ وتستقوي بالحركة العباسية الطامحة. ولم يكن في تلك البقعة الجغرافية وذلك الظرف الحاسم من هو أقرب لانتهاز الفرصة وركوب الموجة واعتناق الدعوة من العنصر الفارسي وهكذا كان.
الفرس قومية عريقة وتاريخ ثري من الطموحات ومدنية باذخة وكانت لهم هيمنة سياسية جانبية على الجار العربي، لكن كل ذلك تهاوى مع الفتح العربي الإسلامي وأصبحت فارس أحد التفاصيل العديدة في أمبراطورية إسلامية متنامية عنوانها العرب ولغتها العربية. ولذا فإن أية فرصة تسنح على أي مستوى من المستويات وفي أي مجالٍ من المجالات تصبح طريقاً لازماً لاستعادة شيء من النفوذ وتأكيد الحضور واستغلال منابر التأثير تواصلاً مع هويةٍ مغيّبة وإن يكن أوان استعادتها لم يحن بعد.
وهكذا بقيت النخب التي تستبطن شعور الهوية الفارسية المغلوبة تستصحب معها حالة الانكسار القومي عبر الأجيال والعصور، رغم اندماج أكثرية الفرس في الدين الجديد والثقافة الجديدة، بل دخولهم في نسيج القومية الجديدة الحاملة لهذا الدين عبر الولاء القبَلي واستبدال لسانٍ بلسان وثقافةٍ بثقافة. وعبر هذين المستويين، أعني الخضوع الواعي المستبطن ثأراً للهوية الغاربة والاندماج العفوي الذي يحمل معه إرثاً حضارياً وثقافياً يفرض حمولته الجمعية على المجتمع الجديد، فقد أصبحت العصور العباسية منذ بداياتها ذات وجهٍ فارسيٍ بامتياز. بدا ذلك واضحاً ونافذاً ابتداء من تقاليد المأكل والمشرب واللباس والأثاث ومجالس اللهو والطرب، مروراً بتجليات الأثر الفارسي في الأدب والفكر والنتوءات الإيديولوجية داخل منظومة الدين الجديد، ووصولاً إلى السيطرة الطاغية في مجالات السياسة والإدارة العليا.
ورغم بعض الانتكاسات المرحلية لهذا النفوذ (أبو مسلم الخراساني ثم البرامكة) ورغم وجود منافسة شرسة تالية من قِبل قومية أخرى قوية هي التركية، إلا أن النفوذ الفارسي وصل أحياناً إلى مرحلة الهيمنة الكاملة على مركز الخلافة عبر السلطنة البويهية. وقد عبر الشاعر الفارسي الكبير مهيار الديلمي، حديث الإسلام حديث التعرب، عن هويته الكامنة بصورة علنية واثقة في مرحلة النفوذ القوية هاتفاً:
قوميَ استولوا على الدهر ضحيً
ومشوا فوق رؤوس الحِقب
وأبي كسرى على إيوانه
أين في الناس أبٌ مثل أبي
لكن كل ذلك الطموح للثأر واستعادة الهوية تهاوى مع السقوط المدوي للدولة العباسية وبقيت فارس تحت هيمنة قوميات أخرى سلجوقية وأفغانية ولكن بذات الثقافة والإيديولوجيا واللغة التي غرسها العرب. وظل الفرس يلوكون هذه الهوية المستعارة، وإن كانوا يطوون في دواخلهم أشواقاً مستعرة لاستعادة الهوية الأصلية والأمجاد الغاربة، وستظل هذه الأشواق الدفينة أزمنة متطاولة ولن يطفئها إقامة دولة كبرى مستقلة بأيدٍ فارسية خالصة، فمازالت الهوية مثلومة ومازال الغذاء الثقافي غريباً وغير مهضوم.
وإذا قفزنا في فضاء الزمن ألف سنة إلى العقود الأخيرة سنجد أن الوضع هوَ هوَ أو يكاد، فهناك دولٌ أو دويلات عربية تُمثّل حالات عباسية مصغرة تلعب فيها النخب الفارسية، أو ذات الهوى الفارسي، ذات الدور بطموحات وأشواق مشبوبة وبخطابات متفاوتة النغمة والإيقاع وبإيديولوجيا مطوّرة أو مهجّنة وبأدوات ووسائل حديثة وعلى كافة الأصعدة فنياً وإعلامياً وثقافياً وسياسياً وأحياناً عسكرياً.
لا يبدو أن التوق والمحرك ماديٌ أو روحيٌ أو حتى جغرافي، لكنه جوع الهوية والنهم التاريخي المزمن لاستعادة بعض عناصرها الغائبة بأي ثمن.
- عبدالرحمن الصالح