د. عبدالحق عزوزي
تعرف مراكز الأبحاث بأنها «أي منظمة أو مؤسسة تدّعي أنها مركز للأبحاث والدراسات، أو مركز للتحليلات حول المسائل العامة والمهمة». وتعرف أيضًا بأنها «تلك الجماعات أو المعاهد المنظمة بهدف إجراء بحوث مركزة ومكثفة»، وهي تسعى لتقديم الحلول والمقترحات للمشاكل بصورة عامة وخاصة في المجالات التكنولوجية والاجتماعية والسياسية والاستراتيجية، أو ما يتعلق بالتسلُّح.
ويعرِّفها أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورجيا «هوارد ج وياردا Howard J «Wiarda، بأنها عبارة عن «مراكز للبحث والتعليم، ولا تشبه الجامعات أو الكليات، كما أنها لا تقدم مساقات دراسية؛ بل هي مؤسسات غير ربحية، وإن كانت تملك «منتجًا» وهو الأبحاث.. هدفها الرئيسي البحث في السياسات العامة للدولة، ولها تأثير فعّال في مناقشة تلك السياسات، كما أنها تركز اهتمامها على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والسياسة العامة، والدفاع والأمن والخارجية.. كما لا تحاول تقديم معرفة سطحية لتلك المسائل؛ بقدر مناقشتها والبحث فيها بشكل عميق، ولفت انتباه الجمهور لها...».
في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، نجد الآلاف من مراكز الأبحاث، منها مراكز الضغط السياسية التي تستخدم نتائج أبحاثها للضغط على الإدارات الأميركية في صناعة القرار كـ«مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، الذي يضم نخبة من السياسيين والأكاديميين البارزين كهنري كسنجر وهارولد براون.. الخ؛ كما يمكن أن نجد مراكز خُلقت للدفاع عن مصالح إسرائيل كـ«معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، والمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي للدعاية لإسرائيل في المجالات الأمنية والعسكرية، أو ما يسمّى بالأذرع الفكرية الإسرائيلية في واشنطن، وهذه المراكز تتوفر على إمكانيات مادية وبشرية ضخمة وتؤثر بشكل جلي على السياسة الخارجية الأميركية. ولا يخفى على كل متتبع لبيب، ما قامت به تلكم المراكز مؤخراً لاستدعاء رئيس الوزراء الإسرائيلي لإلقاء خطاب في الكونغرس الأمريكي، رداً على الاتفاق المحتمل بشأن المسألة النووية الإيرانية، رغم معارضة البيت الأبيض لتوقيت ومكان الخطاب، ليجد الرئيس أوباما نفسه في صورة المستسلم .....
ثم إنّ مراكز الأبحاث والدراسات في الدول الغربية بصفة عامة، لها دور كبير في التأصيل لثقافة إنتاج العلم والمعرفة والتوجيه في مجال السياسات العمومية، لهذا عرّفها بيتر سينجر مستعملاً مجاز سلسلة الدراجة (Bicycle Chair) بأنها توجد بين عالم البحث العلمي والعالم السياسي.
وتختلف أهمية دراسات مراكز الأبحاث باختلاف البلدان من بلدان متقدمة صناعياً وعلمياً إلى بلدان نامية ثم إلى دول متخلفة. لذا لا يخفى على كل متتبع لبيب أنّ قوة هذه المراكز ودرجة تأتيرها على صاحب القرار موجودة أكثر في الدول المتقدمة؛ ولا مناص من القول إنّ الولايات المتحدة الأمريكية ودولاً أخرى كبريطانيا وكندا، كانت الدول الأولى التي نمت وتطورت فيها هاته المراكز.. وتساهم بجلاء بخمسة طرق في مجال السياسات العامة كما ينحو إلى ذلك ريتشارد هاس:
- تساهم في بلورة أفكار أصيلة وتقدم خيارات سياسية متعددة.
- أنها تكون خزاناً من الخبراء المتمكنين يمكن أن يوضعوا رهن إشارة صاحب القرار.
- تعتبر مكاناً للنقاش ومعاينة التوجهات الجديدة والممكنة. وفي بعض الأحيان تكون السرية هي القاعدة المميزة لمثل هاته الاجتماعات، وعلى سبيل المثال يمكن أن نذكر تجربة شاطام هاوس Chatham House)) حيث مأسست لقواعد السرية في تبادل الخبرات والأفكار. والعديد من مراكز الأبحاث تقوم بهذا النوع من الرياضة الفكرية.
- لها دور بيداغوجي للنخب كما للمواطنين. فالبعض منها يكون شغلها الشاغل هي النخبة الحاكمة على حساب الرأي العام، وفئة بحثية أخرى تهتم بالمواطنين على حساب أصحاب القرار، ونستحضر هنا مراكز الأبحاث «الريغانية» نسبة إلى الرئيس الأمريكي ريغان، ومراكز الأبحاث التاتشيرية نسبة لرئيسة الوزراء البريطانية تاتشير والتي كانت تعتبر خارج «دائرة العقلانية»، وأثرت أيما تأثير على الرأي العام، فاتحة الطريق لميلاد مجموعة من القائدين المحافظين.
- كما أنّ تلك المتخصصة في مجال العلاقات الدولية تكون عوناً للمجهودات الرسمية في حل المشكلات الدولية.
وبناءً على هاته المعطيات، فمراكز الأبحاث لا تقوم فقط بصياغة دراسات أصلية، ولكنها تساهم في إعداد النخب والتأثير على المجتمع السياسي. والعديد من السياسات العمومية اليوم في الدول الغربية، تكون قد وضعت في تلكم المراكز على شكل تقارير استراتيجية قبل أن تتحول إلى سياسات، بل إنه حتى من سطروها ودبجوها يجدون أنفسهم يعملون في دائرة صياغة القرار... ولنا في العديد ممن يعملون اليوم في إدارة الرئيس الأمريكي ترامب والرئيس الفرنسي ماكرون أفضل مثال على ذلك؛ وهذا ما يعطي حيوية ودينامية ونجاعة قلّ نظيرها في الانتقاء الأفضل للسياسات والنُّخب.