تُعرّف التغيرات بأنها عمليات ينتج عنها أشياء أو أحداث جديدة، تستقر في مكان أشياء قديمة. وهذه التغيرات تتسم بأنها أحيانًا حتمية، أي أنها أمر لا بد منه، لذا تعد من الأشياء الضرورية في حياتنا، فالأشياء لا تبقى على حالها لفترة زمنية طويلة؛ لأنه من الضروري أن تتغير نحو الأفضل، حتى لا يؤدي عدم تغييرها إلى زوالها مع الوقت. كذلك تتسم التغيرات بالاستمرارية، أي أنها عملية مستمرة سواءً اعتمدت على تخطيط مسبق أو على التأثر بالظروف والعوامل المحيطة بالأفراد، لذا تصنف التغيرات ضمن الظواهر دائمة الحدوث. ومما يجدر الإحاطة به في سمات التغيرات أنها قد تكون تغيرات إيجابية أو تغيرات سلبية (أي تغيرات مرغوبة أو غير مرغوبة)، ولا يمكن تجأهلها أو الانعزال عنها، بل الأجدر أن نتعامل معها من منطلق قيمنا ومبادئنا، وبآليات تمكننا من تفادي إفرازاتها السلبية والاستفادة من معطياتها الإيجابية، مما يحتم على التربويين التعامل معها من منطلقات صحيحة تؤدي إلى التأثير والتأثر الإيجابي.
وفي ظل هذه التغيرات المتنوعة المحلية والعالمية المتسارعة، والتغيرات المجتمعية المتلاحقة، وفي ظل الثورة التقنية والمعلوماتية المتزايدة، وزيادة أفراد المجتمعات وتعدد طبقاتها، تزداد الحاجة إلى التعرف على كيفية التعامل مع هذه التغيرات وتوظيفها في تحقيق الرسالة والأهداف التربوية. ومن خلال دراسة هذه التغيرات، ورصد جوانبها المختلفة، فقد جلبت هذه التغيرات أنواعًا متعددة من الثقافات التربوية العالمية التي فرضت نفسها، كمعايير لتقييم المؤسسات والأفراد، وهذا أجبر الدول على ضرورة تعديل بعض معاييرها التربوية بما يتفق مع هذه المعايير العالمية. كما وحدت الدول أنظمة تعليمها في كثير من الجوانب والأهداف، فأصبحت النظم السياسية تنص على أن التعليم حق للمواطن وواجب عليه، كما أصبح هناك تشابه كبير في محتوى كثير من المقررات الدراسية. كما أدت التغيرات إلى ظهور مفهوم التربية العالمية، الذي تمثل في مساعدة الطلاب على رؤية القضايا التي تهم العالم في صورة أوسع من المحلية، وإدراك مدى التشابك والترابط في المصالح والقضايا والمشكلات بين كافة شعوب العالم.
ومن جوانب هذه التغيرات تنوع مصادر الحصول على المعلومات والمعارف، وتعددها بشكل ساعد الأفراد على سرعة الحصول عليها، بل والقدرة على مناقشتها وتبادل الرأي حولها. وكذلك زيادة مستوى التنافسية بين الأفراد، فلم يعد التنافس بين الطلاب محدودًا في إقليم أو دولة، بل تعدى التنافس بين الطلاب إلى العالمية، وهذا بلا شك يؤدي إلى تنمية عقولهم وصقل مواهبهم وتوظيف قدراتهم وطاقاتهم.
وقد أوجدت هذه التغيرات المعاصرة تحديات مختلفة أمام المهتمين بتربية الأجيال، تتطلب منهم التعامل معها وفق المنظور التربوي الإسلامي الذي يدعو إلى التمسك بالقيم الإسلامية وتعزيز المبادئ الإنسانية النبيلة، ومن أبرز التحديات التي تواجه المربين:
1) تعدد مصادر التربية ومصادر المعرفة: فلم يعد الوالدان هما مصدر التربية، بل أصبح هناك مصادر تشاركهم وقد تتغلب عليهم في التأثير، وهذه المصادر إما أن تكون ذات أثر إيجابي أو أثر سلبي على الأبناء. كما لم يعد المعلم أو الأب هو المصدر الوحيد للمعلومات والمعارف، بل أصبحت هناك مصادر أخرى للحصول عليها وهي أكثر جاذبية منه، مثل القنوات الفضائية وشبكة الإنترنت.
2) غلبة الماديات على تفكير أفراد الأسرة: وهذا دفع الوالدان إلى الانهماك وراء تلبية متطلبات أفراد الأسرة المادية، مما أخل بدورهما التربوي، إضافة إلى أن أغلب أفراد الأسرة أصبح تعاملهم مع آبائهم تعاملاً ماديًا.
3) صراع الأجيال: واتساع البون بين تفكير الأبناء وتفكير الوالدين، مما أدى إلى عزوف الأبناء عن الاستفادة من خبرات الآباء، وعدم قدرة بعض الآباء عن ملاحقة تفكير الأبناء.
4) الانفجار المعلوماتي: أصبح المعلم يتعامل مع طلاب لديهم كم هائل من المعلومات والمعارف المتنوعة، التي حصلوا عليها من خلال وسائل الاتصالات الحديثة، وأحيانًا تفوق هذه المعلومات ما لدى المعلم، وقد تتعارض مع ما لديه من معلومات ومعارف.
5) تقلص خصوصية المجتمعات: فلم يعد هناك أشياء خاصة بمجتمع أو أشياء ليست من مجتمع، ومن ثم فإن القيم والعادات بدأت ترحل من مجتمع وتحل بمجتمع آخر.
وبعد هذا اقترح عددًا من الآليات التي تساعد المربين على توظيف التغيرات المعاصرة، من أبرزها:
1) الشفافية في توصيل الرأي الصواب، إِذ لم يعد هناك شيء خاص أو غير معلوم، وهذا يتطلب من الأفراد والمربين والمؤسسات التربوية والمجتمعية الشفافية في الطرح، وتوضيح الأخطاء وأوجه القصور، وينطبق هذا على الآباء والأبناء في أسرهم.
2) في ظل تزايد هذه التغيرات وتعدد الثقافات وتنوع المعارف واختلاف الأفكار وتباين الأخلاق، يتحتم على المهتمين بالعمل التربوي توسيع دائرة الاستيعاب، حتى تتحقق التربية ولو بدرجات متفاوتة، واعتقد أن أي فرد من أفراد المجتمع لا يتم استيعابه تربويًا قد يكون خسارة على مجتمعه، وقد يكون يومًا ما عنصر هدم وتدمير.
3) التركيز على تحقيق الإنجازات الممكنة: نحن نسعى جميعًا إلى أن نكون الأفضل، وأن يكون طلابنا أو أبناؤنا هم الأفضل، ولكن قد لا نستطيع، وفي هذه الحال ينبغي أن نركز على مميزاتهم الإنجازات التي يستطيعون تحقيقها، ومن ثم توظيفها لصالحهم.
4) مع تزايد هذه التغيرات والاتجاهات وتزايد المعلومات وتنوع الأفكار، يتحتم على المربين امتلاك مهارات مختلفة، مثل: مهارات الحوار والإقناع، ومهارات التواصل والمرونة، ومهارات التعلم الذاتي وغيرها.
5) التأكيد على أن المرجعية في الأحكام الشرعية هي القرآن الكريم والسنة النبوية، ونشر المرجعية التخصصية، مع إتاحة الفرص للجميع للحوار والنقاش والطرح المؤدب.
6) توظيف معطيات الحضارة الحديثة والتقدم التقني، وثورة المعلومات والتفجر المعرفي، والاتجاهات التربوية والتعليمية الحديثة في تربية أبنائنا وطلابنا.
7) تقليص البون الشاسع في الأفكار والاعتبارات، من خلال مشاركة المربي للمتربين في أفكارهم واهتماماتهم، والقرب من مشاعرهم وتلمس احتياجاتهم ومعالجة مشكلاتهم.
8) بناء وغرس القيم السامية وتعزيز التربية الذاتية في نفوس هذه الأجيال، وتحميلهم مسؤوليات تتناسب مع مستوياتهم وقدراتهم.
أخيرًا: التربية هي صانعة العقول وبناء الأخلاق، والمربين هم قادة المجتمع وهم القدوة الحسنة، والأمل فيهم كبير، ولن تقف هذه التغيرات المعاصرة عقبة في تحقيق رسالتهم التربوية.
** **
- استاذ المناهج وطرق التدريس المشارك