فيصل خالد الخديدي
الإيثار خلق نبيل، يقوم على تفضيل خير الآخرين على الخير الشخصي، وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الشخصية. ورغم نبل هذا السلوك وهذه الممارسة، وعظمة نفعها على المجتمع، واستمرار أثرها عبر التاريخ، إلا أنها نادرة ومحدودة. وفي إحدى صور الإيثار التي كان لها أبلغ الأثر في تاريخ الفنون التشكيلية عالميًّا يأتي الفنان التشكيلي والمهندس المعماري الإيطالي جورجيو فاساري الذي لولاه ولولا كتاباته المتوسعة عن الفن والفنانين لغاب جزء مهم من تاريخ الفنون العالمية، ومنها كتابه (حياة الفنانين)، الذي عكف على تأليفه لسنوات، ولم يكن ينام في يومه سوى ثلاث ساعات حتى أصدر كتابه الموسوعي في عام 1594؛ فهو قاموس ومرجع عن تاريخ الفن، واعتُبر أهم كتاب تطرق لنهضة الفنون الإيطالية. وتحدث في كتابه هذا عما يقارب المائتي فنان ونحات ومهندس، أمثال: ليناردو دافنشي ومايكل أنجلو ونيتان ومازاشيو ودوناتيللو ورافاييل.. وكتب بأسلوب واضح وموضوعي، ونقل بمنهج نقدي حيادي كثيرًا من الأخبار عن الحياة التشكيلية في إيطاليا.
وفي صورة من الإيثار الذي قدمه فاساري أنه في العام 1563 عندما خضعت فلورنسا لحكم أسرة ميديشي المتحالفة مع ميلانو، وكلفت فاساري بمهمة تجديد القاعة الرئيسية في المبنى القديم، ورسم جداريات جديدة، تحتفل ببطولاتهم، وكانوا يفضلون إزالة جدارية ليناردو دافنشي (معركة أنجياري) الموجودة بالمبنى, لكنه قام بإخفائها ورسم جداريته (معركة مارسيانو)، وترك جملة مكتوبة على علم يحمله أحد الجنود باللوحة، تقول (ابحث وستجد) في رسالة منه يراها الباحثون مؤشرًا لوجود عمل دافنشي الذي اكتُشف وجوده مؤخرًا.. إن مثل هذا النبل من فنان جاءت له الفرصة لطمس تاريخ من كان قبله، وبناء مجده الذاتي على أنقاض غيره، تصرف نادر في زمننا هذا، وفي مجتمع يفترض به أن يكون أكثر تمدنًا وحضارة ونبلاً، ولكن مثل هذه الممارسات المحمودة أصبحت نادرة وشبه معدومة، مع أن أثرها هو الأبقى والأنجع، فسيرة فاساري ما زالت مستمرة منذ أكثر من 500 عام، ومنجزه حفظ حقه وحقوق العديد من الفنانين مجايليه أو مَن سبقوا جيله، وبقي أثره شاهدًا على نبله وإيثاره، ولم يقلل ذلك من إبداعه.