د. خالد عبدالله الخميس
ليس هنالك شيء اسمه كبير أو صغير في القوانين الطبيعية، إِذْ القانون هو القانون، فالقانون الذي يحكم الظواهر الكبيرة هو نفسه الذي يحكم الظواهر الصَّغيرة، والقانون الذي يحكم الذرة هو نفسه القانون الذي يحكم الكون، والقانون الذي يحكم الأسرة هو نفسه القانون الذي يحكم الدولة، وقانون الزعامة الذي يسري على الأسرة هو نفسه قانون الزعامة الذي يسري على الدولة.
أحسنت مجتمعاتنا العربية بتتويج الأب لقب «رب الأسرة» وزعيمها، وهيبة زعيم الأسرة تعني قوة تماسك الأسرة، وسقوط هيبته يعني اختلال نظام الأسرة وجرها للفوضى والتفكك، وعندما يعلو الصراخ والضجيج في البيت فاعلم أن هيبة الزعيم قد شُرخت وأصبح كل فرد منها زعيماً مستقلاً بذاته.
هنالك قدر معقول من المشكلات والخلافات الأسرية لا تخلو منها أي أسرة، إلا أن أخطر مشكلة ممكن أن تكسر تماسكها هو سقوط هيبة واحترام الزعيم، وبسقوطها تسود الفوضى والدمار أرجاء المنزل، والغريب في معادلة السقوط أن المتسببين في إسقاط هيبة الزعيم هم من داخل الأسرة وهم من سيكتوي بنار السقوط وعذاباته، فمثلاً قد يكون للأم دور في إسقاط هيبة الزعيم إذا بدأت تزرع في آذان أبنائها كراهية الأب عبر قصص حقيقية أو مكذوبة، وحاولت عبثاً أن تنقلب على شرعية الزعامة وبدأت في تهميش دور الأب في أسرته لتنقسم الأسرة على نفسها: قسم يتبع زعامة الأم وقسم يتبع زعامة الأب وقسم يصرخ من الوضع، والنتيجة هي تكوين أسرة فاشلة ومنهارة من داخلها وليس فيها صوت سوى صوت الصراخ والزعيق. وهكذا فإنَّ أهم خاصية لنجاح نظام الأسرة هو الحفاظ على هيبة «الأب» وأن الأسرة الفاشلة هي من فقدت سلطة وهيبة الأب، ولو كان الخيار بين احتمالين: إما وجود أب ذي زعامة قوية لكنه ظالم، أو وجود أب طيب لكنه مكسور الزعامة، فإنَّ الخيار الأصلح هو أب ظالم قوي.
الأمهات الناضجات هن اللاتي يحرصن على أن يتربى الأبناء على احترام والدهم وتدفع بالابن لمرافقة أبيه وتقديره، أما الأمهات «المفسدات» فهن اللاتي يردن فرض سلطتهن بشكل أناني ويغتظن من زعامة الأب ويغرن من تعلق الأبناء بأبيهم وهي صفة للأمهات النرجسيات، وهذا النوع عادة ما يسعى لخلق شرخ في علاقة الأبناء وأبيهم لهدف الوصول لكراهية الزعيم وإسقاط هيبة زعامته، وبالتالي خراب البيت والأسرة، والمحير في الأمر أن هذه الأم «المفسدة» تؤدي جميع أدوارها المنزلية على خير ما يرام، وبالتالي يصعب توجيه أصابع اللوم عليها كونها تعمد إلى إسقاط الزعامة على نار هادئة، وعادة ما تعمد إلى احتواء بعض الأبناء دون أن يستشعر الابن أنه يؤهل كقنابل موقوتة لتحطيم هيبة الزعيم، وبعضهم بلغ منها الخداع والمكر مبلغه حتى أنها تعمل على سياسة «أن تجرح بجرحين وتداوي بدواء واحد»، فحيث تكون هي السبب في زرع الكراهية في نفوس أبنائها ضد أبوهم تقوم هي بنفس الوقت بتوجيهات كلامية فارغة في حث الأبناء لوصل أبيهم كي تغطي على جرحها، ومن هنا تبدو بعض المشاكل الأسرة غائرة في التعقيد كون الحيل المستخدمة في خلق الفوضى هي حيل خفية ومتشابكة حتى أن حيلتها تنطلي على المرشدين الأسريين.
والأسر الفاشلة عادة ما تسعى لواحد من حلين: إما الاستمرار على الفوضى والشجار والصراخ، وإما اتخاذ قرار الطلاق والانفصال، ورغم أن كلا الحلين ثقيل، إلا أن حل الطلاق هو أخف الخيارين.
وعبثاً يحاول من يحاول من جهات خارجية، لمّ تصدع الأسرة ومحاولة الإصلاح وتقريب وجهات النظر، فالصدع إذا خلق من الداخل فلا يمكن لمن بخارج البيت أن يصلحه.
إن كل ما يقال عن نظام الأسرة هنا يقال عن نظام الدولة كذلك، كون النظامين هما أنظمة مجتمعية بامتياز، حيث وجود الزعامة في قمة الهرم ووجود الشعب في أسفله، وما يقال عن خطر سقوط هيبة زعيم الأسرة يقال أيضاً عن خطر سقوط هيبة زعيم الدولة، وما يقال عن خصائص الأسرة الفاشلة يقال عن خصائص الدولة الفاشلة، وما يقال عن الأسباب التي تؤدي لإسقاط زعيم الأسرة يقال أيضاً عن أسباب إسقاط زعيم الدولة، وما يقال عن الحيل والمكر التي دعت لغموض تشخيص سبب تصدع الأسرة يقال أيضاً عن غموض تشخيص سبب تصدع الدولة، وما يقال عن الأم الناضجة يقال عن حكماء الشعب، وما يقال عن الأم المفسدة يقال عن المفسدين المتقنعين بالإصلاح، وما يقال عن أفضلية أب طاغٍ قوي لكنه ممسك بزمام الأسرة يقال عن أفضلية الزعيم الطاغي الممسك بزمام الدولة، وما يقال عن فشل الحلول الخارجية لرأب تصدع الأسرة يقال أيضاً عن فشل تدخل الدول الأخرى لرأب تصدع الدولة من داخلها، وما يقال من أن طلاق الزوجين خير من الاستمرار في الفوضى يقال أيضاً من أن تقسيم الدولة الفاشلة خير من الاستمرار في استنزاف طاقتها.
هكذا هي لعبة المنظومات الاجتماعية يا سادة، إننا نسرف كثيراً في التحليلات السياسية ولا ندري أن تلك التحليلات تشابه لحد كبير ما يجري في الأسر. هكذا هي الأسرة ببساطة، وهكذا هي الدولة ببساطة، وهكذا هو العالم ببساطة، وهكذا هي لعبة الأمم حينما تريد دولة إفشال نظام دولة أخرى، حيث إن اللعب في إسقاط هيبة الدولة يأتي من إسقاط هيبة زعيمها. إن كل تلك القضايا تحكمها قوانين وتلعب بها قوانين وتسير وفق قوانين، قانون الذرة هو نفسه قانون المجرات، وما يجعلنا نحتار ونختلف في تحليلاتنا الاجتماعية والسياسية ليس في غموض القانون، وإنما في اختيار القانون الأنسب لكل حالة، فحيثما يلعب الآخر لعبة الخداع والمكر فإنَّ هذا يشوش علينا رؤيتنا للقانون، ويجعلنا نرى القانون من زاوية مختلف عما هي عليه، تذكروا يا سادة، قصة سلوك الأم «المفسدة» التي تمكنت من زرعت كراهية الأب في نفوس أبنائه ثم تدعوهم لوصله، وتقول لزوجها «خبثاً»: يا حبيبي.