د.محمد بن عبدالرحمن البشر
كنا ننتظر هذا الشهر الكريم أن يهل ويحل، فهلّ وحلّ، وفرحنا فرحة الحبيب بلقاء حبيبه، وما كدنا نستنشق عبق رائحته، حتى ظهر بدره، فاختلط نوره الوضاء، بضوء بدر السماء، في ليلة غراء، فأصبحنا نسابق الزمن - ونحن المقصرون - لعلنا نزيد من رصيدنا في الآخرة، ما دام أنّ الأنفس والأجساد قادرة، راجين من الله الثواب، والنجاة من العقاب، في يوم الحساب .
انتصف الشهر، ومرت الأيام سريعة، والقلوب عند الله وديعة، ولو أننا وضعنا جرداً لما فعلناه من خير وضده، لأدركنا عظم تقصيرنا، وضعف تدبيرنا، لكنا في عفو الله مؤملين، ولواسع رحمته راجين، وكيف لا، ونحن المحسنون الظن به، الواثقون في كرم عطائه، وعظيم منه وامتنانه، وهو الرؤوف بعباده، المتجاوز عن خطايا من صدقت نيته، وحسنت سريرته، وارتبط بربه، وناجاه أن يفك كربه .
انتصف الشهر ونحن غافلون، ولجميل عطفه راجون، ولرضاه مؤملون، فيا له من شهر عظيم، تتجه فيه القلوب إلى الله، وتجدد وتخلد في تفكر وتدبر في خلقه، وتدبيره وتسييره لهذا الكون الفسيح الممتلئ بمخلوقات الله الكثيرة والعظيمة، التي لا حد لها.
لم نكن نعرف قبل توفر الوسائل العلمية أنّ هناك عدداً هائلاً من المخلوقات، مثل البكتيريا والفيروسات، ولم نكن نعلم أنّ هناك أحياءً دقيقة في أجسامنا، على سطح الأرض وباطنها، وفي قاع البحر وبين شعابه، أعداد لا تحصى من تلك المخلوقات الكثيرة العظيمة. وكل منها يسير في نظام دقيق عجيب، يختلف بين مخلوق وآخر، فهناك وحيد الخلية، ومتعددها، والحيوانات الفقرية وغير الفقرية، وعجائب لا تخطر على بال .
وفي السماء لم نكن نعلم أنّ هناك كمّاً أبدياً من النجوم والكواكب والكويكبات والغازات والصخور المختلفة، تتحرك في نظام عجيب، لا يصدقه عقل، ولا يصل إليه خيال مخلوق، ولكن من المؤكد أنّ تلك الأجرام السماوية جزء من المخلوقات التي لا نعلمها الشيء الكثير، ومن المؤكد أنّ لها نظامها وكينونتها، وأنها ستلاقي حتفها في يوم من الأيام، لأنّ الباقي هو الله وحده لا شريك له .. هل تدبّرنا تلك المخلوقات الأرضية والسماوية لتزيد إيماننا بالخالق الذي نؤمن به إيماناً مطلقاً، وهو الذي أمرنا بالتفكر في خلق الأنفس، حيث قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}، وهو الذي أمرنا أن نتفكر ونتدبّر في كل خلقه، فقد خلق كل شيء بقدر.
طويت صفحة من نصف هذا الشهر الكريم، وآمل أن يكون قراءتنا للقرآن الكريم، قراءه تدبُّر وتفكُّر، وربط بما هو متاح من حقائق علميه تعلم أنها لا تساوى ذرة مما سيظهر العلم فيما بعد، وما ستثبت حقيقة وبالدليل القاطع، ولهذا فإنّ ربط تدبُّر القرآن، بالحقائق العلمية المتاحة أمر في غاية الأهمية، حتى لا تكون قراءته سرداً فحسب، فالقلوب الحاضرة عند قراءة القرآن ستجد نفسها تربط بما تقرأه، وبما تعلّمته من علوم ، ومن المهم أن تكون تلك حقائق علمياً لا غبار عليها، وليس بعض المورثات غير الموثقة علمياً والتي درج عليها البعض وأبى أن يزحزح نفسه عنها.
القرآن واسع المعاني، لا حدّ لتفسيره بما يتفق مع النهج القويم، والخط المستقيم، ولعل البعض قد سأل نفسه إن كان قد ربط آية من الآيات التي أعانه الله على قراءتها بما لديه من معلومة حصل عليها من مصادرها العلمية، ليضيف شيئاً إلى هذه المعطيات القرآنية، التي يضيف عدد من العلماء في كل يوم إضافة إعجازية مادية ولغويه، تدل على عظمة هذا الكتاب الكريم، وفي أحايين كثيرة، تقفز الدلالة في لحظة خاطفة إلى الفكر عند قراءة القرآن، لتفتح باباً من أبواب الإعجاز، لهذا الكتاب القويم، فمن مرت به تلك الطارقة، فقد يكون من الأجدى أن يسجلها لتتبلور لديه بعد التمحيص والتدبر ليضيف شيئاً مفيداً لإخوانه من المسلمين .
انتصف الشهر، ونرجو من الله أن يكون عوناً لنا في إتمامه، وموفقاً لنا في التبصر في بيانه، إنه على كل شيء قدير، وهو المؤمل في كل الأحوال، ونرجوه في هذا الشهر الكريم أن يحفظ بلادنا من شر الأشرار، إنه سميع عليم .