د. محمد بن إبراهيم الملحم
أثناء دراساتي العليا في بريطانيا احتجت في أحد أبحاثي أن استخدم مؤشر التنمية الاقتصادية اعتمادا على التعليم وهو أحد المؤشرات الاقتصادية الذي يوضح مشاركة عامل التعليم في مؤشر الناتج الإجمالي الوطني GDP ولكني لم أجد شيئا للملكة ضمن قوائم هذه المؤشرات سواء في قواعد بيانات البنك الدولي أو اليونسكو وبطيعة الحال لم أعثر على شيء في مواقع ومراجع وزارة التخطيط أو وزارة المعارف (حينها)، واستثار هذا الأمر لدي تساؤلا كبيرا محيرا لا يزال يلح علي حتى اليوم ، هو إلى أي مدى يمكن أن يسهم توفر هذه المعلومة (لو اجتهدت الوزارات المعنية في جمع معلوماتها بدقة) إلى تحسين جودة الأداء في كثير من قطاعات العمل سواء الحكومي أو الخاص؟ وينطلق هذا التساؤل من حقيقة أن التخطيط للتعليم وعلاقته بالتنمية يعني الكثير من المعلومات المهمة للمستفيدين من خدمة التعليم (وهم الشباب بناة المجتمع) حيث سيتمكنون من التوجه نحو المجالات الأكثر طلبا للقوى العاملة، كما أن هذه المعلومات ستساعد مقدمي الخدمات التعليمية على إعادة النظر في تعاملهم مع بعض المجالات (كالتعليم المهني والفني مثلا) أو بعض التخصصات في الجامعات حيث يمكن أن تسفر قوة المعلومات وتنبؤاتها الخطيرة إلى تغيير دراماتيكي في خطط العمل وقبول الطلاب والترويج لتلك المجالات خلافا للحالة التقليدية التي تسير عليها حاليا ، ليس هذا فحسب بل ربما يسفر ذلك عن تبني خطط وطنية خاصة على مدى سنوات خمس أو عشر لضخ القوى العاملة في اتجاه محدد تتطلبه خطة التنمية.
الطلاب والطالبات يتجهون حاليا إلى التخصصات المختلفة بحسب شهرتها وسمعتها ، فما كان معروفا عنه توفر الوظائف فيها اتجه إليه الطلاب أكثر من غيره، ولكن هذه المعلومة «الشعبية» قد تكون حقيقتها في طريقها للزوال خلال السنوات الخمس القادمة (حينما يتخرج الطالب) بينما هناك مجالات أخرى أكثر طلبا للسوق لم يعلم عنها في حينه. أما الجامعات والمؤسسات التعليمية فهي تسير بطريقة اجتهادية في فتح التخصصات واستيعاباتها أو في استحداث المجالات الجديدة أو الترويج لها. إن غياب المعلومات أو ضعفها أمر لا يلائم طبيعة الواقع الذي نعيشه اليوم ، فالانفجار السكاني وتنامي الخدمات وتنوعها بطريقة غير نمطية أمور تستلزم توفر خريطة متكاملة لكل متطلبات التنمية من التخصصات والمهن والفرص الممكنة ليتحقق الإنسجام بين جميع الأطراف المرتبطة بهذا النمو الاقتصادي على نحو يحقق توفير الجهد والوقت ومضاعفة العوائد.
هناك عدة مداخل للنظر إلى علاقة التعليم بالاقتصاد وتتبدى النظرة البسيطة في العلاقة بين الإنفاق على التعليم ومشاركة التعليم في الناتج الإجمالي الوطني ، كما تتناول أيضا العلاقة بين الجوانب الكمية لجودة التعليم وقيمة الناتج الإجمالي الوطني وأبرز هذه الجوانب الكمية هي نسبة الملتحقين بالتعليم ، معدل البقاء في سنوات التعليم ، نسبة المتعلمين (الذين يقرؤون ويكتبون)، وكذلك الإنفاق على التعليم. وعلى الرغم أن هذه المؤشرات قد تعطي لمحة عن مساهمة التعليم الاقتصادية لكن ذلك يكون أشد ظهورا في الدول النامية أما دول العالم الثاني أو العالم الأول فتأتي فيها جودة التعليم كمساهم أكبر في التنمية الاقتصادية، وهي المنطقة الأكثر حساسية وأهمية في هذا الموضوع وسوف أتناولها في المقالة القادمة بإذن الله.