أ.د. محمد بن خالد البداح
شهدت عاصمة الحدث والسياسة والفكر مدينة الرياض مطلع الأسبوع الفارط حدثاً عالمياً بارزاً من وجوه متعددة، يتداخل فيه البعد السياسي والدبلوماسي والأمني والفكري والتقني والأممي؛ حيث أعلنت عاصمة الأمان (الرياض) إطلاق المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف (اعتدال) حيث توج هذا الحدث البارز بإعلان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان- أيده الله - تأسيس هذا المركز العالمي، وحظي بحضور عدد من رؤساء الدول العربية والإسلامية والعالمية الصديقة، وهذا المركز العالمي الذي يُعنى بالتصدي لآفة الآفات المعاصرة وأشدها فتكاً في عقول الناشئة والشباب ألا وهي التطرف الفكري الذي تتبناه بعض التنظيمات الفكرية المؤدلجة ورموزها عبر منظومة الخطاب المتطرف الذي وظف التقنية الحديثة بأبشع صور الاستغلال المنحرف بغية التأثير في ثروة البلدان وعتادها وهم الشباب حيث ينفذ إليهم هذا الفكر المنحرف عبر شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لتغذية الفكر المتطرف وزرع تطرف الفكر.
حيث عانت المجتمعات المعاصرة من غائلة التطرف ولم يسلم منها مجتمعنا الآمن فتعرض لإفرازات هذا الفكر المتطرف وعبثياته ومغامراته التي كان روادها ورموزها يظنون أنهم ينالون من مقدرات مجتمعنا ومكانته إلا أنه جوبه بوعي مجتمعي أفشل تلك المحاولات البائسة. فأصبح التطرف يتخذ من بعض الوسائل المتاحة ميداناً له للاستمالة والتأثير والتجنيد أحياناً كل هذا وغيره حفز متخذي القرار في بلادنا لأن يخطوا هذه الخطوة التاريخية ذات البعد الدولي في تأسيس وافتتاح مركز (اعتدال) مؤكداً على النهج السعودي الذي يعكس مكانة المملكة العربية السعودية في تبني منهج الاعتدال والوسطية والتي سار عليها ملوك هذه البلاد وترجموها سياسة فاعلة والسعي في الحفاظ على هذا النهج إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -أيده الله-.
إن هذا النهج السعودي المتمثل في الاعتدال ترجم اليوم بإنشاء هذا المركز ذي البعد العالمي، لتخرج به من المحلية والإقليمية للعالمية الدولية في معالجة هذه الآفة والتصدي لها. فما عُهد عن المملكة العربية السعودية في كافة صور سياساتها إلا انتهاج منهج الاعتدال والوسطية حتى أصبح هذا النهج علامة فارقة تعرف به الدبلوماسية السعودية وسياساتها يظهر هذا جلياً في التعامل الأمثل مع قضايانا المحلية، والإسلامية، والعالمية حيث يتسم التعاطي بقدر ظاهر بارز من الوسطية والاعتدال وحفظ الحقوق والتأكيد على سلامة الفكر الإسلامي الأصيل من أي فكر دخيل، إن تبني مبادئ الوسطية والاعتدال في النهج السعودي هو الميزة المعتبرة الواضحة.
وكم كانت سعادتي غامرة وأنا أتابع فعاليات هذا الحدث العالمي، وأترقب ثمار هذا المركز والمشروع الكبير في حفظ عقول أبناء الوطن وبناته والحفاظ على فكرهم من ملوثات الفكر الإلكترونية أياً كان مصدرها، وهذا يتطلب من المختصين الباحثين الإسهام الفاعل في هذا الميدان من حيث مقارعة الفكر بالفكر ودحض حجج الإرهابيين والمتطرفين كأحد أهداف هذا المركز لغاية مرجوة في أن يصبح هذا المركز المرجع الأول عالمياً في مكافحة آفة الإرهاب والقضاء عليه مما يستوجب أن يدلي المتخصصون بدورهم الفاعل في هذا المضمار المهم والحيوي.
ولعل مما يذكر فيشكر لمؤسسات التعليم والجامعات عنايتها الكبيرة في جوانب التحصين الفكري والحفاظ على فكر الطلاب من أيّ من المؤثرات التي قد يتلبسون بها نتيجة للشبهات أو اللوثات الفكرية، ومما تجدر الإشارة إليه عناية جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بهذا الأمر حيث إن من أحدث الأقسام العلمية النظرية افتتاحاً فيها ويعنى بمعالجة الظواهر المعاصرة والقضايا الحادثة ومنها على سبيل المثال الإرهاب وقضايا الأمن الفكري ومؤثراتها «قسم الدراسات الإسلامية المعاصرة»حيث يدرس في برامجه مقررات دراسات عليا تهتم بترسيخ مبدأ الاعتدال ومنها على سبيل المثال مقرر» الأمن الفكري» ومقرر» الوسطية والاعتدال» ومقرر» المنظمات الدولية» ومقرر « التيارات الفكرية المعاصرة» ومقرر» الفتن والنوازل»، ومقرر « الحركات الإسلامية المعاصرة». وغيرها من المقررات المساندة التي تخدم هذا الاتجاه العلمي كل هذا نتيجة معالجة القضايا والظواهر بموضوعية وحيادية وفق منهج علمي رصين، وقد بدأ القسم بفضل الله بإنتاج بعض الدراسات والرسائل العلمية المحكمة في هذا المضمار.
وأذكر أنني طرحت على طلاب مرحلة الدكتوراه في القسم ضمن مقرر « الدراسات الاستشرافية» سؤالاً دونته في تغريدة كتبتها قبل سنتين في وسم # الدراسات_ الاستشرافية كان نصها ( هل يمكن أن تسهم الدراسات الاستشرافية في الحد من غائلة الغلو والتطرف؟ بالتأكيد قادرة على الإسهام إلا أن هذا الإسهام قد يواجه بتحد أعمق! هو هل تستطيع الدراسات الاستشرافية التنبؤ بتطور هذه الظاهرة وتشكلها مع مرور الوقت؟)
إن كل صور التطرف والغلو القديمة أصبحت تأخذ منحاً متجدداً مختلفاً عما سبقه حتى وصلنا إلى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي عبر ما تبنته من مقاطع أو روابط أو خطابات أو غيرها ومدى صرفها لفكر بعض الناشئة وجرهم إلى أتون التطرف والغلو والإجرام بكافة صور انحرافاته. إن هذا المركز وهو يمثل مركزاً للتعاون الدولي في هذا المجال يحتم على الجهات ذات الاختصاص ومنها العلمية الإسهام الفاعل في برامجه وأنشطته، ومما يشاد به في هذا المجال ترحيب الأمم المتحدة بإعلان إطلاق هذا المركز (اعتدال) لعلمهم بضرورة تظافر الجهود في هذا الجانب والاستفادة من تجربة نهج الاعتدال السعودي في مواجهة هذا الفكر المنحرف ورموزه.
إن مما يميز هذا المركز العالمي عنايته بعناصر التفوق التقني وتوظيفه في جوانب الفكر حيث أضحت التقنية الحديثة عامل تأثير إيجابي إن أُحسن توظيفه. وهذا ما يركز عليه هذا المركز الأحدث في الرصد والتحليل والمتابعة ورسم خطط العلاج.
وتعد معرفة نمط التفكير لدى الشباب المعاصر إحدى صور التنبؤ بمدى تعاطف شريحة الشباب لحركات الغلو والتطرف وهذا يساعد في الإسراع في الحد من عمليات الاستقطاب والتأثير والاستلاب الفكري لهم وهذا ما يدعوا للتأكيد مرة أخرى على ضرورة الحاجة للدراسات المستقبلية الاستشرافية في هذا المضمار.
إننا أمام ظاهرة سريعة التشكل والتبدل وفق ظروف الزمان والمكان مما يستوجب معها تظافر جملة من الجهود التي تبدأ بالوقاية ولا تنتهي بالتوعية والتحصين بل تتجاوز ذلك لحتمية الشراكة المجتمعية لمواجهة هذا الوافد على نهج الاعتدال السعودي.
إن الرهان الكبير هو على توسيع دائرة الوعي لدى المجتمع بخطورة هذا الفكر الوافد الذي يستهدف مقدرات الأوطان وأعز ما تملكه وهو فكر شبابها.