فوزية الجار الله
(إن كان يجمعنا حب لغرته، فليت أنا بقدر الحب نقتسم).
بغض النظر عن المناسبة والزمن الذي قيل فيه هذا البيت إلا أنني أرى فيه أبعادًا أخرى، أدهشتني بعض المفردات وحرضت ذاكرتي إلى استدعاء صور مشابهة.. أن نجتمع، أن نقتسم، أن نتحد ومن ثم نتفق، أن نشد رحال القلب إلى بعضها ومن ثم تظلنا وتضمنا خيمة من دفء ونور..
يجمعنا سحر الكلمات، دفء الأوراق والأقلام وتفرقنا المنابع والأهواء، المنابع تشير إلى مصدر المعلومة والآهة وموقع الجرح الحقيقي، أما الأهواء فهي مدى قدرتنا على التحكم في فيض مشاعرنا تجاه شمس الحقيقة بدلاً من عتمة الكهوف المجهولة وسفوح الوديان التي لا نأمن مفاجآتها.
الكتابة لدى البعض هي الوجه الآخر للصدق والإخلاص ولذا تبدو كتابة المقالة مغامرة خطرة أحياناً، غير مأمونة العواقب ولذا لا بد من كثير من التحري والتأني قبل رسم الكلمات وتحرير المعاني، بينما لدى آخرين هي أمر شديد الشبه بشخص يلملم أطراف السفرة بعد الانتهاء من وجبة طعام ومن ثم البحث عن أقرب سلة نفايات وعلى أفضل التوقعات الإنسانية تقديم البقايا للعصافير والقطط في حديقة للمنزل، ولدى آخرين الكتابة ليست سوى رغبة في أن يقول بملء فيه: (ها أنذا، أو أنا هنا)!
يقول همنجواي: «أصعب شيء هو كتابة النثر الواقعي حول البشر، يجب إتقان الموضوع وكيفية كتابته، ولإتقان الاثنين معًا يحتاج المرء إلى حياة بأكملها).. ورد هذا الحديث لهمنجواي ضمن مقالة قديمة نشرتها الصحيفة الألمانية (العالم يوم الأحد) موقعة تحت اسم مستعار س. ر مارتين.. جاءت المقالات بمنزلة رصد لتجربة الكتابة بمجالها الناجح والمؤثر متمثلة باستقصاء لحالات الكتابة وشيوع الإبداع في لغة تخاطب البشر.. حيث كان أحد أهم أهدافها تعريف القارئ بسلوك بعض الكتّاب المميّزين خلال إنتاجهم بعض الكتب القيمة الثرية منها على سبيل المثال: (ذهب مع الريح) لمرغريت ميتشل و(الشيخ والبحر) لهمنجواي و(كوخ العم توم) لهارييت ستو..
وإبداعات أخرى لتولستوي وهرمان هسه.. نتابع المقال الذي يتحدث عن إبداعات بعض أشهر الكتاب قائلاً (لقد أدرك- والمقصود هنا همنجوي- بأنه ليس قادرًا على أن يكون صحفيًا وكاتبًا في آن واحد.. رفض كل العروض الصحفية التي كان بوسعها أن تجعله يعيش لسنين طويلة، دون هموم، عاد إلى غرفته في مونتمارتر حيث كان غذاؤه الوحيد البطاطا المقلية وأحيانًا يعاني الجوع - واتضح له مع مرور الأيام أن عملية الكتابة كالرسم تمامًا، حذف، دقة متناهية، بساطة، تجنب البيانية وإخلاص في العمل).