د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
«الأوتّو» هو المرفوع لقوة 18 من أساس العشرة، أي عشرة وعلى يمينها 18 صفراً. وعندما نحسب هذه الرقم على أنه جزء من الثانية نصل إلى مفهوم «الأوتوثانية» في الفيزياء البصرية. وهذا قياس زمني علمي بحت يتحقق داخل مختبرات لليزر التحكم فيها عال جداً وفي ظروف معينة.
ولتقريب الأوتّوثانية، كما ذكر مطور هذه التقنية، العالم النمساوي فيرينز كراوس، فإنَّ نسبة الأوتّو ثانية للثانية تقارب نسبة الثانية لعمر الكون المعروف!! وسبق وفاز فراز كراوس بجائزة الملك فيصل في عام 2013م، ويقود الآن أبحاثاً في هذا المجال في معهد ماكس بلانكس الألماني المملكة شريكة فيها.
وعلى سبيل التوضيح فـ «الفيمتو ثانية» التي توصَّل لها العالم المصري أحمد زويل ونال عليها جائزة نوبل، هو رفع الرقم 10 إلى القوة 15 جزءا من الثانية، أي عشرة وعلى يمينها 15 صفراً من الثانية، ويصل للمليار أو الكاودرليون من الثانية. وهذه التقنيات المتقدمة تستخدم لتصوير الجزئيات المتناهية الصغر التي تكون سرعتها عالية جداً ولا ترصد إلا بتقنيات متناهية السرعة.
هذه التقنيات الليزرية ساهمت في فتوحات علمية كثيرة في مختلف المجالات العلمية العضوية وغير العضوية، وساهمت في صناعة الأجهزة متناهية الصغر التي تستخدم في التكنولوجيا هذه الأيام. قبل زويل، مثلاً، كان يمكن تصوير الخلية صوراً ثابتةً بالمجهر الإليكتروني، وبعد تقنية الفيمتو التي أتى بها زويل أصبح بالإمكان تصوير الخلية من الداخل بصور متحركة. عليكم إذاً أن تتصوروا ما قد تأتي به تقنيات وعلوم الأوتّو ثانية التي هي أسرع بكثير من تقنية الفيمتو ثانية حال تطبيقها في مجالات طبية أو إليكترونية. هذه بالطبع اكتشافات علمية «بحتة»، وسيترتب عليها تطبيقات علمية متشعبة.
ما دفعني لهذا المقال هو أنني احتجت إلى معلومات عامة عن تطورات تقنية الليزر، فتواصلت مع أستاذ مختص في هذا المجال هو الزميل الاستاذ الدكتور عبد الله الزير الذي أفنى عمره معلماً وباحثاً في جامعة الملك سعود في هذا المجال، فدعاني الدكتور لزيارة مختبر «الأوتّوثانية» الذي أقامته الجامعة بالتعاون مع معهد «ماكس بلانكس» في ألمانيا حيث يعمل فيرينز كراوس نفسه، وجامعة لودفيق ماكسيلميان في ميونخ. وذهلت فعلاً لما شاهدت من تجهيزات تعد الأحدث في تقنيات الليزر في العالم وهي الآن في المملكة. ومعهد ماكس بلانكس غني عن التعريف فهو من أرقى المعاهد التقنية في ألمانيا وكذلك جامعة لودفيق ما كسميلان. لم يكن بناء هذا المختبر، أو الدخول في شراكة مع معهد ماكس بلانك أمراً سهلاً فقد حاولت جهات كثيرة في ألمانيا ذاتها، أو خارجها منع أو تعطيل هذا التعاون العلمي المتقدم. والتعاون بين المعهد والدول الأخرى في تقنيات كهذه ينحصر في دولة أو دولتين.
وجود مختبر بهذا التقدم، وفي هذه اللحظة الحرجة من تطور التقنية في المملكة ليس مكسباً علمياً فحسب بل يعد مفخرةً. والتطبيقات التي يمكن أن تبنى عليه مهولة وهي لو استغلت لأحدثت نقلةً كبيرةً في البحث العلمي والتقني في المملكة. وقد فتح التعاون مع معهد ماكس بلانكس في هذا المجال باب التعاون في المجال الطبي أيضاً، فهناك فريق بحث في الجامعة الآن يقوده أكبر مختص في سرطان الثدي في العالم الفرنسي جان مارك، وهو للمعلومية يدرس في الجامعة، والدكتور خالد الصالح للتعاون لتطبيق هذه التقنيات للكشف المبكر عن الخلايا السرطانية، ويتوقع أن يثمر هذه التعاون عن فتح علمي عالمي جديد في مواجهة هذا المرض القاتل. وهناك تجارب أخرى لسبر خصائص مادة الميلامين يقوم بها أيضاً الدكتور عادل مجذوب. وقد دعمت إدارة الجامعة مشكورة هذه الأبحاث بكل ما تستطيع حسب الإمكانيات المتاحة لها. وهنا لا بُدَّ من شكر إدارة الجامعة وشكر القائمين على هذا المختبر وغيره في الجامعة الذي يعملون للمحافظة عليه حتى أوقات العطل والإجازات، فهم يعشقون العلم كما يعشق الفنان لوحاته. لكن المؤسف حقاً أن تضيع فرص علمية ثمينة نتيجة لقلة الموارد المادية أو البشرية أو نقص الكوادر المتخصصة. وليت الدولة تخصص للجامعات خصوصاً تلك التي بها إمكانات بحثية كبيرة كجامعة الملك سعود ميزانية خاصة مقطوعة للبحث العلمي فقط، لتحرر قطاع البحث والباحثين من كل القيود المالية والبيروقراطية التي تعيق تقدمهم، فالبيروقراطية وقلة الموارد أو الطواقم الفنية تعيق الأبحاث كثيراً. ويجب علينا الصبر وعدم استعجال النتائج الملموسة، فالبحث العلمي أحياناً لا يأتي بإجابات سريعة بل يطرح أسئلة جديدة ويفتح آفاقاً كانت من قبل غير معلومة لما هو أعم وأعظم.