إن الغوص في التاريخ له فوائده بالبحث عن الحقائق والأسرار المجهولة. ومثلما يقال «كسبب ونتيجة». وأحيانًا نجد من المقاربات أكثر من المفارقات التي حدثت لسبب وآخر، التي تزول مع الزمن لسبب بسيط، هو أن يبقى الخير والسلام عنوان التفاهم والمحبة، خاصة ونحن نكتب عن شعوب، جمعتها مصالح وأهداف وعادات وقيم مشتركة.
في التاريخ..
الزمن مع بدايات القرن العشرين من العقد الثاني بعد تأسيس الحكومة العراقية (المملكة العراقية) الحديثة والدولة السعودية الناشئة (النجدية) آنذاك. تعود هذه البدايات إلى أولى الاتفاقيات - إن صح التعبير - وهي «معاهدة المحمرة» في أيار 1922 لترسيم الحدود العراقية - النجدية. وتُوجت الأحكام التفصيلية لتلك المعاهدة في البروتوكول الذي تم التوقيع عليه في العقير بتاريخ 2 - 12 - 1922؛ فقد اشترط هذا البروتوكول لأول مرة قيام حدود عراقية نجدية، انعقدت النية على تحديدها مع إقامة منطقة محايدة، تخصص لحقوق الرعي المشتركة فيها. وعلى صعيد نجد ارتفعت منزلة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود إلى درجة عظيمة بين القبائل والمناطق التي حقق فيها انتصارات، وانتهت بعد فترة من الزمن بعقد معاهدة (بحرة) عند نقطة بحرة في الحجاز في 1 - 11 - 1925.(1)
في 20 - 2 - 1930 غادر ملك العراق فيصل الأول إلى البصرة، ومنها إلى عرض الخليج العربي، حيث التقى الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود على ظهر «لوبون»، وقد عانق كل منهما الآخر، وكانا يتناديان بكلمة أخي. وذكر الملك فيصل الأول للملك عبدالعزيز: «لست الآن فيصل بن الحسين يحدث عبدالعزيز بن سعود. إنما أنا ملك العراق، وأنت ملك الحجاز ونجد». ويضيف قائلاً: «إن خلافهما لو كان شخصيًّا فالأمر هيّن، أما أن يجر خلافهما العرب لقتل بعضهم بعضًا فالمسألة في غاية الخطورة». وذكر له أيضًا أن بريطانيا كانت في السابق تعمل على إزالة سوء التفاهم بينهما.
وكان رد الملك عبدالعزيز آل سعود بأن أقسم بالله بأنه لا يحمل ذرة بغض لفيصل، وسأل الله أن يوفق الجميع لخدمة العرب. وأكد فيصل للعاهل السعودي أن المخافر التي بناها العراق ستساعد على استتباب الأمن في المنطقة الحدودية؛ ما سيعود بالنفع على البلدين. كما اتفقا مبدئيًّا على بحث مسألة تسليم المجرمين، وعقد معاهدة لحسن الجوار وتبادل الممثلين الدبلوماسيين. وقد أخذ ما تم الاتفاق عليه طريقه إلى التنفيذ؛ الأمر الذي جعل الملك في غاية الاطمئنان.(2)
وبإعلان قيام المملكة العربية السعودية في 18 - 9 - 1932، وتعيين الأمير سعود نائبًا عنه في الرياض والأمير فيصل نائبًا عنه في الحجاز ووزيرًا للخارجية نظرًا لثقافته العامة، واطلاعه على اللغات الأخرى، فبهذا تعتبر المملكة العربية السعودية من أولى الدول العربية المستقلة.(3)
بعد تطور الأحداث السياسية على الساحة العراقية إبان الحرب العالمية الثانية، وقيام حركة مايس 1941 الوطنية بقيادة رشيد عالي الكيلاني، أسهمت المملكة العربية السعودية بدور إيجابي من خلال الوساطة مع الجانب البريطاني، التي عرفت في حينها بوساطة الملك عبدالعزيز آل سعود. وسارع رئيس حكومة الدفاع الوطني للتجاوب مع الوساطة التي بادر إلى القيام بها الملك عبدالعزيز من أجل احتواء تطورات الموقف، والحيلولة دون قيام الحرب بين الجانبين؛ فقد بادر الملك عبدالعزيز إلى الاتصال مع الحكومة البريطانية عبر وزيرها المفوض في جدة معربًا عن استعداده للتوسط. وفي ضوء الجواب الذي تلقاه الملك من الوزير المفوض البريطاني كتب إلى رشيد عالي الكيلاني، يطرح أمر الوساطة عليه أيضًا. وللتفصيل في الرسائل المتبادلة يمكن الاطلاع على كتاب التاريخ لم يبدأ غدًا - حقائق وأسرار، ط2، بغداد، 1989، ص 81.(4)
بعد الحرب العالمية الثانية بدأت تتشكل تحالفات في الشرق الأوسط؛ إذ كان نوري السعيد رئيس الوزراء يسعى إلى: «فكرة إقامة فيدراليات للدول العربية»، بالرغم من تشكيك ومعارضة واسعة النطاق، أبداها زعماء عرب، وخصوصًا مصر والسعودية.(5)
لكن هذا لم يمنع العراق والسعودية من تأييد مشاريع وحدوية عربية منذ تأسيس جامعة الدول العربية 1945، حتى أن أمينها العام عبدالرحمن عزام السياسي المصري عمل فيما بعد مستشارًا للملك سعود بن عبدالعزيز، وأوفد ممثلاً شخصيًّا إلى واشنطن لمعالجة قضية العقبة آنذاك.(6)
وبقيام ثورة 14 تموز 1958، وإعلان الجمهورية العراقية، فقد تفاوت موقف أقطار الخليج العربي من الحدث، ومنها المملكة العربية السعودية، التي كانت معارضة في بداية الأمر.. ليتوج الموقف ببرقية أرسلتها المملكة العربية السعودية للاعتراف بالجمهورية العراقية. وحسب البرقية الموثقة بملفات المجلس السيادة ذي الرقم 278 - 411م - تقرير السفارة السعودية في بغداد بتاريخ 24 - 7 - 1958 نصها: «جاء اعتراف مملكتنا بجمهوريتكم لخير العروبة والإسلام».(7)
ألقى الشأن الداخلي العراقي بظلاله على المواقف الخارجية؛ إذ إن المملكة العربية السعودية أوجست خيفة من تزايد النفوذ الشيوعي بعد حركة الشواف - انتفاضة الموصل، وقدمت احتجاجًا في 25 - 4 - 1959 بسبب التصريحات التي كانت تصدر من المحكمة العسكرية العليا الخاصة «محكمة الشعب» ضد السعودية، وما تلاها فيما بعد حول مسألة الحدود، كذلك مطالبة العراق بالكويت «وبدون مبرر أيضًا»؛ ما أسهم بتوتر العلاقات.
وعلى صعيد آخر كانت المملكة العربية السعودية كسائر أقطار الخليج العربي سوقًا جيدة للمحاصيل العراقية المختلفة.(8)
وللتاريخ، كانت الجمهورية العراقية الأولى لها مواقف تحسب لها؛ إذ إنها كانت داعمة لكل قضايا التحرر العربي والعالمي، وكانت أحيانًا تقف موقف المدافع كما حدث مع أقطار الخليج العربي عندما ادعت إيران الشاه آنذاك أن (البحرين جزء لا يتجزأ من الأراضي الإيرانية)؛ ما أثار استياء وغضب الشعب العربي في عموم الأقطار العربية، ومنها العراق؛ فأصدرت وزارة الخارجية العراقية بيانًا، أكدت فيه عروبة البحرين، وأن «البحرين بلد عربي، كان منذ القدم - وما زال - جزءًا من الأمة العربية».(9)
وفي أواسط الستينيات من القرن الماضي توطدت العلاقة مع المملكة العربية السعودية ودور ملكها فيصل بن عبدالعزيز. ونقلاً عن السياسي والوزير الأسبق أحمد الحبوبي، وكتابه (أشخاص كما عرفتهم)، ط2، بيروت، 2013، ص42، في نظرته عن الملك فيصل قائلاً: «الملك فيصل شخصية من الصعوبة سبر غورها، ويجيد الاستماع، وقليل الكلام، ويتأنى في اختيار عباراته، ويميل إلى الاختصار. ورغم خلافه مع الزعيم الراحل جمال عبدالناصر بخصوص اليمن وغيرها إلا أن موقفه كان رائعًا وقوميًّا في مؤتمر القمة العربي الذي انعقد في الخرطوم بعد نكسة حزيران 1967؛ فقد تناسى كل الخلافات، وارتفع إلى مستوى المعركة القومية التي تخوضها الأمة العربية أمام العدوان الإسرائيلي».(10)
وأخيرًا.. إن الدروس التي يمكن استنباطها من تاريخ القطرَيْن خاصة، والخليج العربي عامة، غنية بالعبر والأحداث، وبنتائجها المختلفة على مر السنين. وخلال المرحلة القادمة نحتاج إلى نظرة وسطية على مختلف المستويات، منها:
- تعميق الوعي من خلال المشتركات، وأولها «العروبة والإسلام» الرابطان الأساسيان.
- عدم السماح بالتدخل في شؤون الآخر من الجهات غير الرسمية. وكما هو معروف بأن الجهات الرسمية لها حدودها.
- الثقافة المجتمعية - إن صح التعبير - من خلال الإعلام الوسطي ووسائل الصحافة ومنظمات المجتمع المدني.
- إبعاد التحزب والطائفية من أن يتدخلا وبتأثيرات خارجية معادية.
- ترسيخ قيم التسامح والتفاهم وحب الخير وتحقيق السلام، ليس على الورق فحسب، وإنما من خلال تعزيز ذلك تربويًّا وعلميًّا، واستحضار دروس التاريخ القائمة على التسامح، خاصة ونحن أمة جمعت بين قبضة السيف وحلم الأنبياء. والاعتزاز بالتراث العربي والأمجاد الإسلامية وإسهامات الشعوب الإسلامية غير العربية.
... ... ...
الهوامش:
- (1) سليم طه التكريتي، العراق الحديث 1900 - 1950، ط1، بغداد،1988، ص 262.
- (2) د. علاء جاسم، الملك فيصل الأول حياته ودوره السياسي، ط1، بغداد، د.ت، ص214.
- (3) د. محمد علي، تاريخ العرب المعاصر، ط1، بيروت، 1999، ص 348.
- (4) نجم الدين السهر وردي، التاريخ لم يبدأ غدًا، ط2، بغداد، 1989، ص81.
- (5) تشارلز تريب، صفحات من تاريخ العراق،ط1، بيروت، 2006، ص2006.
- (6) محمد حسنين هيكل، سنوات الغليان، ج1، ط1، القاهرة، 1988، ص40.
- (7) حيدر زكي عبدالكريم، الجمهورية العراقية الأولى، ط1، دمشق، 2011، ص2011.
- (8) د. قحطان أحمد سليمان، السياسة الخارجية العراقية، ط1، القاهرة، 2008، ص275 - 276.
- (9) عدنان سامي نذير، عبدالجبار الجومرد، ط1، بغداد، 1991،ص261.
- (10) أحمد الحبوبي، أشخاص كما عرفتهم، ط2، بيروت، 2013،ص81.
حيدر زكي عبدالكريم - كاتب من العراق