محمد الكثيري
قلتُ في مقال سابق: أن تبني الدولة -أية دولة- رؤية، تحدد توجهاتها ومساراتها وطموحاتها المستقبلية، يعتبر أمرًا مهمًّا، ودلالة على النضج الذي وصلت إليه الدولة، على أن تتوافر لتلك الرؤية العديد من الشروط، وتحظى بالعديد من المواصفات التي تمكنها من تحديد متطلبات وتطلعات المجتمع بمناحيها كافة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، إضافة إلى أن تصحب تلك الرؤية آليات ووسائل تنفيذ واضحة، وقابلة للتقويم والمراجعة والتعديل والتطوير، حسبما يستجد من متغيرات وظروف. ولأن البعض ما زال يطرح عددًا من علامات الاستفهام حول الرؤية التي تبنتها قيادة هذا البلد، وأعلنتها تحت مسمى رؤية المملكة 2030، وبمناسبة مرور أكثر من عام على إعلان تلك الرؤية، فإن محاولة معرفة أسباب وجود علامات الاستفهام تلك ومحاولة مناقشتها أمر مهم، وبالذات مع الأحداث المهمة التي عاشتها المملكة الأسبوع الماضي؛ لأن ذلك قد يكون دافعًا وعاملاً مساعدًا لإنجاح الرؤية، وهو مطلب ينشده الجميع.
يبدو أن الإشكالية الكبيرة التي واجهت الرؤية في بداياتها هي الطريقة التي قدمت بها للمجتمع، والأهم من ذلك الآليات والبرامج التي سارع القائمون على الرؤية بتبنيها، والعمل على تطبيقها. لم تقدم الرؤية عندما طرحت للمواطنين على أنها منظومة شاملة ذات أبعاد اقتصادية وثقافية واجتماعية، بل تنموية في معناها الشامل، وإن كان المختص يلمح بين سطور الرؤية ووثائقها إشارة لتلك الأبعاد. الرؤية قدمت وكأنها تهدف إلى إصلاح مالي، يسعى إلى زيادة مداخيل الدولة نتيجة قلة موارد النفط؛ إذ ركزت وكررت الحديث عن رفع الدعم وزيادة أسعار الكهرباء والماء والوقود، وامتد الأمر إلى إيقاف البدلات والمزايا للموظفين. هذا على مستوى المواطن، أما على مستوى قطاع الأعمال فقد ركزت الرؤية على الرسوم والضريبة، بما فيها ضريبة القيمة المضافة التي لها انعكاس أيضًا على المواطن، كما صاحبها تحفظ شديد في الإنفاق الحكومي. في المقابل، قدمت الرؤية الكثير من الوعود الجميلة للمواطن، كتلك المتعلقة بزيادة نسبة تملك المساكن وتحسين مستوى الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها، ولكن الفرق أن الأخيرة وعود طويلة الأجل، لن يلمس أثرها المواطن مباشرة، بينما لمس وشعر بالقرارات السريعة والعاجلة التي لامست جيبه مباشرة، وأثرت على دخله.
إن التوازن في تقديم الرؤية للمواطن بين الأهداف والتطلعات طويلة الأجل وقصيرته، وكذلك التوازن بين الأوضاع المالية التي تمر بها البلاد، والتي انعكست على بعض القرارات، والظروف المعيشية للمواطن، أمر مهم لإنجاح الرؤية وتفاعل المواطن معها. إن إعادة البدلات والمزايا المالية للموظفين كانت من القرارات المهمة التي انعكست إيجابًا على المواطنين، ولكن وجود برنامج يعيد تقديم الرؤية، وبالذات مع بلايين الاستثمارات التي وعدت الحكومة بضخها في شرايين الاقتصاد من خلال صندوق الاستثمارات العامة، والاتفاقيات التي وقعتها أخيرًا مع العديد من الشركات الأمريكية، وما ستؤدي إليه من خلق وظائف وتحسين معيشة المواطن.. أقول إن وجود ذلك البرنامج يعتبر مطلبًا مهمًّا؛ فالمواطن يهمه قبل كل شيء أن يطمئن على وظيفته ومصادر رزقه وبيته وأسرته.