عبدالعزيز السماري
كان من أهم أسباب الفشل العربي في بدايات عصر الاستقلال من الاستعمار شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وتم استخدامه لضرب مختلف مشاريع التنمية الاقتصادية، أو حتى الحديث عنها، فقد كان أشبه بالظاهرة الصوتية التي طغت على تفاصيل الحياة المدنية والعملية في المجتمع، وكانت النهاية فشلا ذريعا ونكسة..
تتغذى الشعوب العربية من موائد ظواهر التعصب الطائفي والسياسي منذ عدة عقود، ومن شعارات التفريغ السياسي، وتتحمل ثقافة الاستبداد السائدة على مختلف التيارات مسؤولية هذا الضياع والتشتت الذهني للإنسان العربي..
ولا يحتاج المرء إلى سرد أمثلة على ذلك، فالوضع وصل إلى درجة الجنون، كما هو الحال في العراق وسوريا وليبيا، فهم يتقاتلون على فرض الحقيقة التي يؤمن بها على الآخرين، ولا يقبلون أن يتنازلوا أو أن يصلوا إلى درجة من التواصل مع الآخر المخالف.
في الخليج العربي لم يكن الأمر بذلك السوء، لكنه مر خلال مراحل مد وجز، وكان الاقتصاد النفطي ترمومتر تلك العلاقة، ففي أعلى مستويات الدخل الاقتصادي من عوائد النفط تنحسر أطروحات التعصب والتطرف إلى مساحات أضيق، لكنها تعود إلى حالة التزمت أوالتطرف كلما تهاوت أسعار النفط من جديد.
بعد إقرار الرؤية السعودية للمستقبل كان الأمل ولازال أن يخرج المجتمع من دوائر النفط والاقتصاد الرعوي وعلاقته بالظواهر الصوتية ودورات التعصب والتطرف والإرهاب، لكن العقول المتسممة بالأيدولوجيات المتناحرة لا تتوقف عن محاولات جر الوعي السعودي الجديد إلى مناطقها، ولعلها نجحت نوعاً ما في ذلك في الأونة الأخيرة ..
تتقاتل على صفحات الوعي السعودي مجموعات متطرفة من تيارات متضادة، وتعمل من أجل فرض أيدولوجيات سياسية متناحرة على العقول، فالإخواني الإسلامي يتواجد بقوة في الساحة، ويعمل على نشر أفكاره السياسية، كما يتواجد السلفي الجهادي المتزمت الذي يؤمن بالعنف والعمل السياسي في سبيل فرض رؤيته المتطرفة والمطلقة للأشياء من حوله، ويتحرك المتطرف الشيعي في منطقته لأهداف مماثله، ويحاول أن يضيف تطرفاً من نوع آخر إلى الساحة المشتعلة..
لعلني أحد الذين يؤمنون بقوة أن النمو الاقتصادي والتعليم هما خطا الدفاع الأول ضد انتشار الأفكار المتعصبة في المجتمع، وإذا نجحت الدولة في الخروج من أساليب وتبعات الاقتصاد الرعوي، فسيكون الخاسر الأكبر هو ذلك العقل المأزوم بالتطرف والتعصب والعنف ..
نحتاج إلى شركات ومجمعات صناعية ومشاريع تعليمية عملاقة من أجل مهمة تفريغ العقول من المحتوى المأزوم، واستبداله بالفكر العملي والعلمي، الذي يؤمن أن العمل والإنتاج هو المنهج الصحيح، ولا يمكن أن يتحقق ذلك بدون الخروج من تلك الدوائر المغلقة.
علينا أن نتعلم الدرس جيداً، فالصراع مع الإرهاب لا يمكن أن يتحقق من خلال أبواق الشعارات السياسية أو عبر إعلان صوتي يردده الجميع، ولكن من خلال الخطط البديلة التي تؤدي في نهاية الأمر إلى إحلال العمل والنجاح محل التعصب والفشل في العقل، وهو ما يعني أننا في أمس الحاجة للعقول القادرة على تحقيق المعجزة الاقتصادية في الوطن..
باختصار .. الرؤية السعودية في سباق ماراثوني مع الزمن المتطرف، وإذا لم تقطعه بالنجاحات الاقتصادية والوعي سينال التطرف من عقول الأجيال الجديدة، وسيحولهم إلى جنود على رقعة الصراع الأيدولوجي في المنطقة، ولا نحتاج إلى سرد أمثلة، فالمستقبل يتشكل أمامنا في بعض الدول العربية، فقد أضحت الفوضى والخراب نتيجة طبيعية لطغيان الظاهرة الصوتية، ولضياع البناء الاقتصادي والإنساني في تلك المجتمعات في فترات سابقة. والله ولي التوفيق.