د.عبد الرحمن الحبيب
تعود أمريكا بقوة إلى الشرق الأوسط ولديها أولويتان، هما: مواجهة الجماعات الإرهابية عبر ضربها بشكل مباشر، ومواجهة النفوذ الإيراني الداعم للإرهاب والاضطرابات في المنطقة بمزيد من العقوبات الاقتصادية على إيران وتجفيف منابع التمويل لوكلائها أو وشن هجمات مباشرة عليهم إن لزم الأمر.
كانت «خطة التنفيذ الوطنية» التي وضعتها إدارة بوش عام 2006 قد شددت، ضمن إحدى ركائزها، على ضرورة «مكافحة التطرف الإسلامي العنيف»، الذي استبدل خلال إدارة أوباما بـ»مكافحة التطرف العنيف» ولكنها لم تكن من أولوياتها إلا بعد أن أقدم متطرفون إسلاميون محليون مستلهمين فكر تنظيم «القاعدة» على تنفيذ تفجيرات ماراثون بوسطن عام 2013، وكانت إستراتيجية أوباما ضعيفة وغير ممولة جيداً.
لكن الوضع تغير مع الرئيس الأمريكي ترامب، فمنذ بداية رئاسته أوضح المسؤولون في إدارته أن أولويتهم الكبرى تتمثل بمكافحة الإيديولوجية التي تحرّك جماعات مثل القاعدة وداعش. وهنا صرح هؤلاء المسؤولون أن الإسلام السياسي - وهو عقيدة سياسية متطرفة منفصلة عن الإسلام كدين - هو الفكر المتطرف الذي يشكل التهديد الأكثر تحدياً على أمن الولايات المتحدة. ومن ثم، ظهر بقوة مصطلح «مكافحة التطرف الإسلامي».
وقد قُدمت دراسة استراتيجية لإدارة ترامب من مجموعة باحثين بمعهد واشنطن بعنوان «هزيمة التطرف العنيف المستلهم من العقيدة»، سنعرض ملخصاً لها. هذه الدراسة تؤكد أنه يجب على أي جهود جدية وفعالة لمكافحة التطرف أن تكون جزءاً من استراتيجية أوسع تشمل إشراك المجتمعات المحلية. فهذه المجتمعات تعتبر خط الدفاع الأول لمواجهة التطرف العنيف، ولذلك فتمكين هذه المجتمعات وتحفيزها على الانخراط بشكل أكثر نشاطاً في هذا المجال يصب في خدمة منع التطرف وخدمة المصلحة الوطنية.
ينبغي لأي خطة شاملة لمكافحة التطرف أن تشمل تدابير وقائية تهدف بالدرجة الأولى إلى منع التطرف من التفشي داخل المجتمعات، ثم اتخاذ تدابير تهدف إلى مواجهة عملية التطرف التي تؤثر على الأفراد عندما تحدث. أي أن الإجراءات الأولى تركز على المجتمع والثانية على الأفراد. ويسمح التمييز بينهما على عملية الوقاية التي يقودها المجتمع بينما تتم المحافظة على قدرة الربط بين قوى المؤسسات الأمنية الرسمية ومؤسسات المجتمع عندما يتعلق الأمر بالتدخّل.
السؤال هنا هو كيفية إنشاء هذه الهيكلية لمنع ومكافحة التطرف العنيف التي تقوم على توازن فعال ومعالجة متساوية بين مخاوف كل من الأمن القومي والتماسك المجتمعي، وبناء الثقة بين كافة الأطراف المعنية، ومواجهة التطرف العنيف بقابلية ممنهجة للاستدامة والتوسع. وعلى حد قول مفوض شرطة بوسطن السابق إدوارد ديفيس: «تدعو اليوم الحاجة أكثر من أي وقت مضى لإنشاء علاقة بين شركاء إنفاذ القانون والأطراف المعنية وأفراد المجتمع لمنع وقوع هجمات.» وفي هذا الإطار، تقترح هذه الدراسة بضعة مبادئ توجيهية لتحقيق هذه الأهداف، أهمها على النحو التالي:
إعطاء مصطلح «منع ومكافحة التطرف العنيف» تعريفاً يوضح المسائل المرتبطة به وتلك المخصصة له. واعتماد هذا المصطلح لتغطية كامل الأعمال الهادفة لمنع ومكافحة التطرف العنيف. وتستوجب مكافحة الإرهاب جهودا تكتيكية لإحباط الهجمات وجهودا استراتيجية لمكافحة الإيديولوجيا المتطرفة التي تغذي الكراهية والعنف وتدعّم خططه وجاذبيته العالمية.
أما آلية منع ومكافحة التطرف العنيف فلا تعتبر أداةً لمكافحة الإرهاب بل خياراً متوازياً ومكمّلاً في السياسات التي تتعامل مع الأنشطة المقلقة - وإن كانت قانونية - التي تحدث ما قبل الجريمة. ويمكنها أيضاً أن تلعب دوراً هاماً في مرحلة ما بعد الجريمة حيث تتم إعادة التأهيل والدمج في المجتمع. كما أن جهود منع ومكافحة التطرف العنيف تقلص عدد الأشخاص الذين يحتمل تجنيدهم لأعمال إرهابية عبر طيف الأيديولوجيات المتطرفة العنيفة.
كما ينبغي تحديد الأفكار المتطرفة - من المذهب الجهادي، مروراً بنزعة الفوقية لدى البيض، وصولاً إلى الحركات العرقية المستمدة من النزعة اليسارية الراديكالية وغيرها - كونها المحرك الرئيسي للتطرف والتعبئة على ممارسة العنف، مع الإقرار بوجود عوامل «دفع» كالمظالم المحلية، وعوامل «جذب» كالقرابة، تلعب دوراً في التطرف والتعبئة.
وأخيراً، تقسيم نطاق الجهود المبذولة لمنع ومكافحة التطرف العنيف إلى ثلاث فئات منفصلة تتناول المنع والتدخل وإعادة التأهيل/الدمج. في المرحلة الأولية، تصنَّف جهود تنمية مرونة المجتمعات المحلية بوجه التطرف ضمن فئة منع التطرف العنيف وتكون مرتكزة على مستوى المجتمع. ويمكن ذلك عبر مقاربة ثلاثية: أولاً، منع التعرض، ثانياً البحث عن إشارات العدوى، وثالثاً التعامل مع التعرض إذا حدث. والعنصر الأكثر أهمية هنا هو برامج التدخل المحلية التي تحافظ على تماسك الرابط بقوى إنفاذ القانون ولكن طبيعتها لا تكون أمنية بالكامل. وفي المرحلة النهائية من منع ومكافحة التطرف العنيف، ثمة مجال مهم آخر وهو برامج إعادة التأهيل وإعادة دمج الأفراد الذين توجهوا نحو العنف بعد خروجهم من السجن.
وفي النهاية، لا يمكن فصل جهود منع ومكافحة التطرف في داخل الوطن عما يحدث خارجه، فهزيمة الجماعات الإرهابية في الخارج وإفلاس عقيدتها هي عنصر قوي في إبطال جاذبية هذه التنظيمات أمام المجندين المحتملين، سواء أكانوا في الخارج أو الداخل.