يلح عليّ تساؤل مستمر؛ هل ما قدمته وزارة التعليم؛ لتعليم وتعلم التفكير يجعلنا ننافس بجيل مفكر خلاّق؟ أم أنها لا تعدو محاولات تكبو وتنهض لا ترقى لتستوعب الجيل بأكمله؛ فأثرها محدود لا يراهن عليه؟
وسأنطلق في هذه المقالة متتبعة لتلك الجهود في تعليم وتعلم التفكير والتدريب عليه مما لاحظته وعايشته في الميدان التعليمي.
تبنت وزارة التعليم تنمية مهارات التفكير منذ عام 1425هـ قبل ثلاثة عشر عاماً من خلال دليل المعلم لتنمية مهارات التفكير، ومما جاء فيه على كلام معالي الوزير الدكتور محمد الرشيد رحمه الله: «إن تعليم التفكير والتدريب عليه هو استثمار أمثل في الإنسان، بل في أغلى ما يملكه الإنسان، وهو العقل الذي وهبه الله إياه وجعله مناطا للتكليف، ومن هذا المنطلق حرصت وزارة التعليم على أن تولي التفكير ما يستحقه من العناية، وجاء هذا الدليل أول ثمارها».
ومما جاء في كلمة وكيل الوزارة للتطوير التربوي آنذاك الدكتور محمد العصيمي: «فمن خلال تطلعات المشروع الشامل لتطوير المناهج لإدخال مهارات التفكير في المناهج الدراسية، وعن طريق هذا (الدليل) والدورات التدريبية الخاصة لتنمية مهارات التفكير وغيرها من الجهود، يتم وضع أساس علمي يسهم مع بقية برامج الوزارة الأخرى في استثمار طاقات العقل..»
وهذا يدل على مدى ما يدركه المسؤول حول أهمية تنمية التفكير؛ فهل حقق هذا الدليل ما طمح إليه؟ فالدليل وزع على المعلمين والمعلمات وفيه جهد يذكر فيشكر؛ فانطلق المبادرون لتطبيقه ما وسعهم ذلك في ظل ضخامة معرفية لكثير من المواد الدراسية، مما جعل الغالبية لا يعطي مهارات التفكير حقها في التنمية ليكمل المحتوى في وقته المحدد، أما من جعل تنمية التفكير هدفه من خلال المحتوى فكان عليه أن يزيد أعباءه من خلال حصص الاحتياط ويكون متأخرا في إنهاء المحتوى، يتذمر منه المدير والمشرف!
محتسبا في ذلك كله الأجر من الله.
بعده بثلاث سنوات جاء برنامج الأمن الفكري الذي لم يحقق أهدافه لمدة عشر سنوات!؛ إذ كان تنفيذه تقليديا، ولم يصل لجميع المستهدفين؛ فلم يحقق الأثر المطلوب؛ ومن الأدلة على ذلك التغرير ببعض شباب الوطن للانضمام للإرهابيين وطعن خاصرة الوطن! فطور لبرنامج فطن منذ عامين ويوضح الدليل العلمي لفطن بأنه برنامج وطني لوقاية المجتمع من المهددات الأمنية والاجتماعية والثقافية والصحية والاقتصادية؛ مستهدفاً المجتمعات التعليمية بالتعاون مع المؤسسات ذات العلاقة؛ وزارة الشؤون الاجتماعية، وزارة الداخلية، وزارة الصحة، وزارة الشؤون الإسلامية والرئاسة العامة لرعاية الشباب وأقسام علم الاجتماع وعلم النفس، الخدمة الاجتماعية، الكراسي البحثية المتخصصة.
وتقوم رسالته على وقاية المجتمع التعليمي طلابا ومعلمين وبيئة تعليمية من المهددات ممتدين بخدماته إلى الأسرة، ومن أهم المشاكل التي يسعى البرنامج لحلها؛ غياب الهوية، نقص المهارات الشخصية والاجتماعية، المهددات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية والفكرية.
ويأمل في رؤيته بتحقيق الريادة في البرامج الوقائية الفكرية والسلوكية لتعزيز المهارات الشخصية والاجتماعية الإيجابية بنهاية عام 1438هـ مسهمين في بناء المواطن الصالح. والقيم التي يسعى البرنامج لغرسها وتنميتها؛ المبادرة، التحفيز، العمل بروح الفريق، الانتماء، الجودة. ويقدم البرنامج التدريب المباشر، والتدريب عن بعد، وتوفير مكتبة إلكترونية، وإعداد المدربين، كما يعنى بالتثقيف عن طريق المعارض والأفلام التعليمية والمطويات والرسائل النصية القصيرة، كما يطلق العديد من المسابقات كمسابقة جائزة فطن، ومسابقة القصة القصيرة، والرسم الإلكتروني، وغيرها. ويهتم بتقديم الاستشارات عن طريق مراكز الاستشارات، والمستشارين، والهاتف الاستشاري، والوسائل التربوية.
فالدليل العلمي لبرنامج فطن يوضح قيمة هذا البرنامج فيما لو سار كما خطط له ووفق نموذج التقويم بعد التنفيذ .. غير أننا أوشكنا على نهاية العام الدراسي 1438هـ فهل حقق فطن ما يصبو إليه؟! أم أن ما حققه من نجاح محدود؟! فالتقصير في تحقيق أهدافه واضح لكل مطلع على الميدان عن قرب؛ ففطن بات يحتاج إلى فطن؛ فبرامجه المدرسية في معظمها تطغى عليها الشكلية فلا تغدو سوى كلمات رنانة وشعارات منمقة وخطب إنشائية لا تصل لمقارعة فكر لفكر ناهيك عن الهدر المالي الذي لا يخدم البرنامج من قريب ولا بعيد؛ تحول إلى ملفات حافلة بتقارير منمقة.!!
وفي ظل تطوير المقررات الدراسية كان لتنمية التفكير نصيبها؛ فضمنت الأنشطة بمهارات التفكير مركزين على مستوياتها العليا والوسطى، مراعين أنماط التعلم، والذكاءات المتعددة، غير أن حجم المعرفة لا زال مسيطرا!! مما جعل معلم التفكير في حيرة بين المحتوى وتنمية التفكير من خلاله؛ نظرا لما يتطلبه من خطوات علمية فاعلة ؛ تستغرق وقتا وجهدا لتحقيق نتائج مؤملة!!
يضاف أن الأنشطة اللاصفية بعضها يأتي جاهزا ما على الطالب والمعلم سوى تنفيذه، ولا يصقل المستويات العليا في التفكير فيغلب عليه الالقاء والمناقشات المكررة البسيطة.
ولم تغفل وزارة التعليم ممثلة في مراكز الموهوبين والموهوبات التدريب على تنمية مهارات التفكير من خلال برامج مستقلة كالكورت وسكامبر وتريز والاهتمام بالبحث العلمي والتفكير الإبداعي، غير أنها لا تستهدف سوى مئات محدودة من بين الآلاف الذين اجتازوا مقياس موهبة وبعضها لا يُعطى الوقت اللازم له!! ناهيك عن سوء توقيت تنفيذ بعض البرامج مما لا يسمح ببعض المستهدفين لها من الحضور!!
كما أن المراكز العلمية الثابتة والمتنقلة التي بلغ عددها ثمانية عشر مركزا علميا موزعا في المملكة العربية السعودية؛ تهتم بالتفكير العلمي والإبداعي وعادات العقل للطلبة والطالبات المستهدفين منها، غير أن تأثيرها لا زال محدودا فعدد من استفاد منها حتى نهاية 2016 (43.129) كما أعلنه الموقع الرسمي للمراكز العلمية، ويعد عدداً قليلا أمام أعداد الطلاب والطالبات في الوطن الحبيب.
كل ذلك نتج عنه -كما أرى- محدودية الأثر لتنمية التفكير للطلاب العاديين أو الموهوبين، مما نتج عنه كثير من مظاهر الانسياق وراء الإشاعات والتضليل الإعلاني والقولبة الفكرية دون نقد وإبداع!!
ولا يخفى علينا النتائج التي حازها طلابنا دولياً في مسابقة tems، وقلة من يتصدر عالمياً في مجال البحث العلمي والابتكار، بل حتى الاختبارات الوطنية لطلابنا كانت نتائجها لا تسر، مما يؤكد ما ذهبت إليه نتائج العديد من الدراسات التقويمية الحديثة لتعليم وتعلم التفكير التي أظهرت ما يحتاجه من مزيد عناية واهتمام؛ ليصل للمأمول كدراسة (الجلاد، 2010) ودراسة (السلوم، 2014).
ولكي نحقق خطوات إيجابية في تنمية التفكير علينا أن نتخلص من الكم المعرفي بمقابل مساحة واسعة ثرية للتفكير، فيمارس الطالب مهارات التفكير في جو من الحرية الذهنية ؛ فمهارات التفكير تظل صالحة لكل زمان ومكان فهي لا تقدم مع مرور الوقت فلها القدرة في التعامل مع المعلومات وكل ما يستجد؛ فهي تقدم الطرق الصالحة للاستعمال مهما اختلف موضوع التفكير، كما يؤهل معلم التفكير لهذه المهمة النبيلة تأهيلا يضمن مخرجات منافسة على يديه، ويكون شريكا فاعلا في التخطيط والتنفيذ لتطوير المنهج.
وبذلك سيحظى الوطن باهتمام بتنمية ثرية للتفكير مقابل الفهم العميق؛ يقود ذلك معلم تفكير متمكن فاعل ينجح في تمكن الطلاب من مهارات التفكير ، مع تشجيع التعلم عن طريق العمل ، وتحفيز الطلاب نحو ثقافة العمل المهني بما يتناسب مع عصر المعرفة.
فما أجمل ما نادى به الأستاذ الدكتور بدر الصالح «حفظ أقل، تفكير أعمق، عمل أكثر»؛ إنها وصفة ناجعة ليأخذ التفكير حجمه المطلوب، ويحقق نتائجه المرجوة في جيل مفكر منافس يقود حضارة ونهضة الوطن بإذن الله.