د. محمد عبدالله العوين
حين قال الزعيم المصري سعد زغلول لزوجته «صفية» وهو في اللحظات الأخيرة التي يودع فيها الدنيا 1927م «غطيني يا صفية.. ما فيش فايدة»! كان في حالة يأس من أوضاع مصر المضطربة التي كانت تحت الاحتلال الإنجليزي؛ والحق أن نضال سعد ورفاقه الوفديين الأبطال كمصطفى النحاس وغيره أثمر عن ثورة الشعب المصري ضد الاحتلال عام 1919م في السنة التي أعقبت نهاية الحرب الأولى والحلفاء المنتصرون قد اتفقوا على تقاسم مناطق نفوذ الخلافة العثمانية في الدول العربية وغيرها. ومصر كانت غنيمة للإنجليز قبل سقوط الخلافة التركية وبعدها؛ بسبب سوء إدارة الأتراك لمناطق نفوذهم في العالم العربي والإسلامي.
لم تكن المكاسب التي حققها الزعيم سعد لوطنه يسيرة بإصراره على استقلال مصر؛ على الرغم من نفيه مرتين إلى مالطة ثم إلى سيشل. ونفي الخصوم عادة إنجليزية ذميمة أخذت بها للتخلص ممن يثير الشعوب ضدهم؛ كما فعلوا مع الزعيم أحمد عرابي ت 1911م وعبد الله النديم ومحمود سامي البارودي الذين نفوا معه إلى «سيرلنكا» وكما فعلوا ذلك مع أحمد شوقي ت 1932م حين نفوه إلى أسبانيا. وكتب قصيدته المشهورة الذائعة:
أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس؟!
تكالب الأعداء على الأمة يتقاسمونها بعد أن ضعفت شوكتها وهانت هيبتها؛ كالجمل حين يسقط تكثر السكاكين التي تنهش جسده. وفي حالة كهذه حين يهيمن الأعداء على الأوطان تنقلب الأمور؛ فيحاكم الوطنيون الصادقون المجاهدون عن كرامة أوطانهم وشرف أعراضهم وتاريخ أمتهم بالخيانة. ويصدر القضاة بائعو الذمة والضمير أحكامهم القاسية على أولئك الوطنيين الشرفاء؛ إما بالإعدام كما حصل للمجاهد العظيم عمر المختار الذي استشهد عام 1931م بعد أن حاكمه الطليان المستعمرون لليبيا محاكمة ظالمة وأفتى بـ«خيانته» قضاة الزور. وكما حصل مع عرابي والبارودي والنديم ورفاقهم الذين نفوا عشرين عاما إلى أن هدهم المرض أو أنهكتهم الشيخوخة.
ولو تأملنا في تاريخ أمتنا العربية القديم والحديث وفتشنا عن أسباب انتكاساتها وتمكن الأجنبي الغازي المعتدي من ديارها والاستيلاء على مقدراتها وإلباس عشرات التهم للوطنيين الشرفاء المناضلين من أبنائها لوجدنا أنها «الخيانة»!
فلو لم يقدم الخائن «ابن العلقمي» أسرار بغداد ومفاتيح الدخول إليها والمعلومات الدقيقة عن مقاتليها ومواضع القوة والضعف فيها للتتار لما سقطت بغداد في أيديهم عام 656هـ ولولا ممالأة الأتراك في أواخر الدولة العثمانية للإنجليز وخيانة بدو الصحراء وبعض المنتفعين من الغزاة لما سقطت مصر وظلت رهينة لاحتلال الإنجليز أربعة وسبعين عاما من 1882م - 1956م.
نتذكر كلمة سعد زغلول لزوجته صفية ومصر كانت محتلة وهو يرى ما حل في بلاده بسبب ممالأة البعض وخيانات آخرين. ونعود إلى شيء من وقائع تاريخنا البعيد والقريب لنتأمل ما يحدث اليوم في بلادنا العربية فنجد أن الأحداث والوقائع القديمة تكاد تتكرر وتعاد صياغتها بلافتات جديدة وذرائع ينتحل لها الخونة مسوغات ومبررات تخفي ما يبطنونه ويتسترون عليه من قطيعة انتماء لأمتهم. وخور وضعف وارتباك أمام تصاعد فورة الروح العربية الإسلامية لصد التغول الفارسي المجوسي في المنطقة العربية متكاملا مع مشاريع تفتيت الدول العربية في خطة لئيمة رسمها الجيل الجديد من المستعمرين الذين عادوا إلى أوطان العرب بعد أن تم ترحيلهم بالحديد والنار واستبسال المناضلين العرب الأوائل ضد الجيل الأول من المستعمرين الذين احتلوا ما يقرب من 90% من دول العرب بعد اتفاقية سايكس - بيكو 1916م ثم استكملوا مشاريع الاحتلال والتقسيم بعد سقوط الخلافة العثمانية 1922م.
إن «الكذاب أبو وجهين» مدعي الانتماء الخائن أكبر خطرا وأشد ضرراً وأكثر فداحة من العدو المكشوف. فمن يلاقينا بوجه باسم وسن ضاحك واحتضان تمثيلي ثم يعمل في الخفاء من ألوان الكيد والتآمر مع الأعداء ما يضعفنا هو العدو الأول الذي يحسن أن يعلم أنه قد انكشف وحانت ساعة تحديد موقفه إما مع أوضد. لم تعد المواقف الرمادية مجدية. وقد يضطر الإنسان أحيانا إلى بتر أحد أعضائه.