حين شرعت في الكتابة عن ديوان هيفاء الجبري (تداعى له سائر القلب) الصادر عن نادي الرياض الأدبي بالتعاون مع المركز الثقافي العربي سنة 2015 فاجأتني الشاعرة الفاضلة بإهدائي ديوانها الثاني (البحر حُجَّتي الأخيرة) الصادر عن دار الانتشار العربي سنة 2016 فرأيت أن تكون قراءتي لديوانيها..
من الناحية الشكلية هناك تشابه كبير بين الديوانين، وكأنما الشاعرة قد ارتضت خط سيرها الإبداعي.
كلا الديوانين يضم قصائد موزونة من الشعر التناظري، ومن شعر التفعيلة، وتشكل القصائد العمودية ما نسبته سبعون في المائة في كل ديوان، غير أن الديوان الأخير اشتمل على مقطوعات قليلة هي أشبه ما تكون بشعر النثيرة، لولا أن التفعيلة تكاد تجتذبه إليها، فموسيقاه الخارجية أكثر وضوحاً مما ألفناه في الشعر المنثور. تقول من قصيدة بعنوان (السماء لا تمطر شعراً):
في السماء تخوض الحمامة أنهارها
وتسطِّر غيما لأجنحة تُنتظر
كل درب إلى الطيران متاح هناك
غير أنيَ لست أجيد اقتراب الحياة البعيدة تلك التي ربما ذات يوم تكون هنا..
في القصائد العمودية في الديوان الأول سيطرت بحور الطويل والخفيف والبسيط والكامل والسريع على معظم قصائد الديوان، ولم يختلف الديوان الثاني إلا في التقليل من قصائد بحر الكامل وإضافة قصيدة واحدة من بحر الرمل الذي لم تكن نظمت عليه في ديوانها الأول.
لم أدرس دراسة دقيقة البحور التي تناولها الشعراء المعاصرون، لكن الناظر المتعجل يلحظ أن بحر الطويل - الذي أكثر فيه المتقدمون - وبحر السريع الذي نظم عليه كثير من شعرائهم؛ قد ابتعد شعراؤنا المعاصرون عن خوض غمارهما إلا المبرزون منهم كشاعرتنا هيفاء، وأن معظم الشعراء المبتدئين يبتدئون بالكامل؛ ربما لرتابته وتكرار تفعيلته الوحيدة ست مرات في كل بيت. وهذا ما جعل الشاعرة دون قصد منها تخفف منه في ديوانها الثاني.
أما بالنسبة للقوافي فقد أكثرتْ من الراء والميم والهاء في كلا الديوانين مع حضور واضح للهمزة - وخاصة المفتوحة - في ديوانها الأول. ولم تنس في الديوانين أن تقتحم حروف الروي النادرة مثل الضاد في الديوان الأول، والخاء والشين في الديوان الثاني.
لقد خلصتُ من تتبعي لبحور الشاعرة وقوافيها إلى أنها تجنح - بقصد أو بغير قصد - إلى السير على خطى الشعر القديم؛ سير المتذوق المحب، لا المقلد التابع.
أما اقتحام القوافي النادرة والصعبة مثل الخاء والضاد والشين والهمزة المفتوحة والتاء التي تعقبها ألف الوصل فلا شك أنه نوع من التجريب، ومثله لزومها ما لا يلزم في مقطوعة من أربعة أبيات:
من أي شوق أرى شعرات أمنيتي
تساقطَ الليلُ منها إذ أسرحُها
إذ التزمت الهاء والألف بعد الروي الحاء.
ومن دلائل ارتباطها بالقديم أيضاً جنوحها للتصريع في ربع القصائد العمودية التي اشتمل عليها ديواناها.
أما إذا تأملنا طول قصائد الشاعرة هيفاء فإننا نلحظ في الديوانين كليهما تساويَ عدد القصائد مع عدد القطع والنتف والأبيات المفردة، وهذا ما أثر على النسبة العامة لطول قصائد الديوانين، إذ لم تبلغ ثمانية أبيات في الديوان الأول، وتسعة في الديوان الثاني. ولم تتجاوز أطول القصائد في ديوان (تداعى له سائر القلب) واحداً وعشرين بيتاً، وفي ديوان (البحر حجتي الأخيرة) أربعة وعشرين بيتاً.
وليس القِصَر في القصائد وكثرة القطع والنتف والأبيات المفردة مأخذاً على شعر هيفاء، بل هو من محاسن شعرها، إذ عمدت إلى الاختصار غير المخل وسلمت من فضول القول، فجاءت القصائد كلها - بما في ذلك الأبيات المفردة - مكتملة الفكرة لا تحتمل المزيد، كمثل قولها:
وحين لمست الحرف ألفيتُ متعبا
يكاد من الإعياء يهوي من السطر
ولا يمنع الشاعرة إن وجدت الفكرة قابلة للتمدد أن تضيف على البيت المفرد ما يعضده حتى بعد حين، فهي بعد أن اكتفت ببيتها المفرد في ديوانها (تداعى له سائر القلب):
وروحيَ تكرارٌ لما يكتب الهوى
لعمرك إني ضقتُ من كثرة النسخِ
أضافت أبياتاً له في ديوانها الثاني حتى اكتملت قصيدة من تسعة أبيات وعلى روي نادر هو (الخاء)، وقد حملت هذه الإضافة صوراً في غاية الإتقان كما في البيت التالي:
إذا ظُنَّ صُورُ الحب نايا مزوَّقا
فمن ينجد العشاق من ساعة النفخ؟!
ومن أجمل الصور التي استوقفتني تصويرها الحلم يقف في الصف:
طابور حلم واقف هاهنا
ينتظر الأيام للآخر
ملفه.. أوراقه.. شمسه
محروقة في شوقه الثائر
يرده الماضي ولكنه
يعود للصف من الحاضر
ولها تصوير رائع لاندفاع السنين:
كنت أمشي وخلفي السنين تسير فلما وقفت مضت قدما
ولها تصوير بديع للقلب المشتت، وكأنها بهذا تستحضر الجسم المشتت عند عروة الصعاليك في بيته الشهير:
أوزع جسمي في جسوم كثيرة..
فتقول من قصيدة (الحب والصمت والصحراء):
لا تقسِّم قلبي لجزءين إني
لست أهوى طريقة الأجزاء
أنا قلبي قراءة بدؤها من
فسحة واختتامها من فضاء
أنا قلبي جماعة من طيور
نزلت تستقي إلى سطح ماء
أنا قلبي سماعة لطبيب
أذنها لا تفيق إلا لداء
أنا قلبي قصاصة من جروح
أنا قلبي لفافة من عناء
أنا قلبي: قلب، وقلب، وقلب
وقلوب كثيرة الأشياء
كل قلب صديقُ همٍّ صديقي
قد تعودت ندرة الأصدقاء
ومن الومضات التي تسترعي الانتباه لما تحمل من دهشة التناقض والمفارقات مقطوعة قصيرة من شعر التفعيلة بعنوان (وداد):
وداد الصبية..
كانت تضيِّق خصر الزهور..
لتربطها باقة..
وتهديَها للزمنْ..
يجيء الزمنْ..
يضيِّق خصر ودادْ..
ليربطها زهرة في الكفنْ!..
وحينما نفحص المفردات التي تدور في قصائد هيفاء نجد مفردات مثل: الغربة/ الروح/ الشِّعر/ الحلم تفرض سطوتها.
أما لفظ (البحر) فقد تكرر في ديوان (تداعى له سائر القلب) لكنه أصبح موضوعاً رئيساً في ديوانها (البحر حجتي الأخيرة) بدءاً من عنوانه، ثم باستهلاله ومروراً بعنوانات بعض القصائد: البحر الذي نخشى/ أيها الغرق/ بحر بالتبني/ أنشودة النار في فم البحر.
ولا بد من الوقوف على قصيدة (أنشودة النار في فم البحر) من ديوان (البحر حجتي الأخيرة) فقد نسجتها على بحر الخفيف وروي (القاف)، لكنها نوعت في قافيتها تنوعاً مبتكراً، فقسمت القصيدة إلى مقاطع عدة، وفي كل مقطع تختلف حركة الروي أو ما يتبعه، فالمقطع الأول تنتهي أبياته بالقاف المشبعة فتحا:
وحدها لم تزل تقدم للبحر شتاتا وعزلة واحتراقا
ثم في المقطع التالي تصل بالقاف هاء ساكنة:
حيث يُروى عن المحارة أن البحر قد كان مرأة ذات حرقةْ
ثم تكسر الروي في الجزء الثالث من القصيدة:
هل سمعتَ البحار تذكر يوما كيف جاءت قبائل الإغراقِ
ثم تعود مرة أخرى إلى القاف الموصولة بألف في المقاطع المتبقية..
إن حرص هيفاء على التمسك بالقديم، وتجربة كل أشكاله؛ لم يمنعها من تجريب الأشكال الحديثة حد الابتكار مما يجعلني أجزم بأن أرى في كل ديوان قادم لهيفاء شكلاً ومضموناً جديدين، وأن إبداعها لن يتوقف عند حد..
- سعد الغريبي