«أنا أفهمك» آخر ما قالهُ الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، قالها وهو يصرخ هلعاً، قالها وهو يطوّق بذراعية رقبة حصان كان يضربه صاحبه بلا رحمة، قالها في تورينو عام 1889 ميلادي، قالها قبل الدخول في مرحلة الجنون، التي أمضى فيها عشر سنوات صامتاً تدريجياً حتى وفاته.
بعد أن دخل نيتشه في مرحلة الجنون، لم يستطع أن يشرح للناس عبارته الأخيرة، بسبب أن الصمت أصبح موقف الفيلسوف الذي تكلم كثيراً، الفيلسوف الأكثر تأثيراً في التاريخ الحديث، صاحب «كتاب هكذا تحدث زرادشت»، و كتاب «ما وراء الخير والشر»، وكتاب «هذا هو الإنسان»، وكتاب «ضد المسيح». لحظة جنونه تعتبر لغز عظيم، فيها يقع من تحدى القيم والأخلاق والمعرفة واللاهوت ضعيفاً باكياً منكسراً متضامناً مع حيوان.
وفي استيحاء سينمائي يصنع المخرج المجري بيلا تار ملحمة بصرية فلسفية عن الحصان الذي طوقه نيتشه بذراعيه، بعنوان «حصان تورينو». ليكون آخر أعماله، وخاتمة سيرته السينمائية.
وبطريقة غير مباشرة أصبحت نهاية نيتشه المأسوية ترتبط بنهاية بيلا تار السينمائية، وكأن السينما أرقى أساليب المحاكاة التاريخية فيها الشاشة تعبر عن أعظم وأعمق اللحظات الإنسانية.
في عام 2011 قدم بيلا تار آخر أفلامه، بعنوان «حصان تورينو» يحكي قصة الستة الأيام التي سبقت حادثة جنون نيتشة بالألوان الأبيض والأسود، يبدأ الفيلم بمجموعة من المعلومات المكتوبة عن نيتشه، و عن الرجل الذي جلد حصانه بالسوط، وعن ردة فعل نيتشه بالركض نحو الحصان واحتضانه في الثالث من يناير عام 1889م.
افتتاحية الفيلم عبارة عن لقطة طويلة جداً للحصان، تتحرك فيها الكاميرا بزوايا مختلفة دون قطع، تعطي شعوراً عن طبيعة جهد الحصان، والطول الزمني يفتح أبواب التأمل، وبالتالي منذُ اللقطة الافتتاحية يصبح الحصان مركز القصة.
رجلٌ عجوز يقود الحصان، يعيش مع ابنته معزولين عن العالم في منزل خشبي صغير، بجانبه حضيرة للحصان، وبئر، وشجرة بلا أوراق بعيدة جداً. برتابة وبروتين يومي يقوم الرجل العجوز وابنته بأكل البطاطس المسلوق بأيديهم، وفي أحد الأيام يزورهم جارهم بصمت، يجلس على الطاولة، و يطلب بعضاً من النبيذ، ينفجر الصمت ويبدأ الجار بالتحدث والاستطراد بشكل مأساوية عن انحطاط الوجود بسبب تفاهات البشر، وبعدها يترك قطعتين ذهبية على الطاولة وينصرف.
وفي اليوم التالي تكتشف الفتاة امتناع الحصان عن الأكل والشرب، وبعدها تأتي مجموعة من الغجر لبئر العائلة والشرب منه، والغناء والتصرف بغجرية تامة، تأتي الفتاة لطردهم فيعطيها أحدهم كتاب إسمه «ضد المسيح»، ثم يخرج الرجل العجوز لطردهم مستعيناً بسلاحه الناري، ليرحل الغجر بعيداً عن البئر. تقوم الابنة بقراءة الكتاب بصوت مرتفع.وبعد كل ذلك تتضاعف المأساة، يجف البئر، ولا يزال الحصان متمرداً ممتنعاً عن الأكل، وحتى الفتاة تفقد شهيتها عن أكل البطاطس المسلوقة، وتمتنع عن الأكل.
وبعد مرور يوم، عاصفة قوية بدأت تضرب المكان بلا هوان، ونتج عنها ضمنياً انهيار الوجود الإنساني. ثم يأتي اليوم الأخير، وتخرج العائلة مع الحصان متجهين نحو الشجرة البعيدة، وكأنهم متجهون نحو مصيرهم.
بيلا تار جعل الحصان مركز القصة وتعاطف مع الحصان، وصور أيام المعاناة قبل لحظة الجنون. الرائع بالفيلم أن موقف الحصان عن الامتناع عن الأكل، وجفاف البئر، وتكرار الزمن الروتيني في جميع الأيام الستة، أعطى حساً أن لعنة نيتشه أصابت الجميع، فأصبح العالم يعيش أيام صعبة عقاباً على ما قدمه من أفكار ونظريات ومصطلحات.
الفيلم يتعاطف مع الحصان بشكل مباشر، وبأسلوب شبه سوداوي، ولكن التركيز على الحصان بالقصة يعطي مبررات عن المرحلة التي عاش فيها نيتشه، وعن عالم من حوله قبل جنونه، كل الأشياء بدأت تعاني، حتى الحيوانات أصبحت جزء من المأساة، وبشكلٍ مقارب نتذكر تجربة المخرج الفرنسي روبرت بريسون في فلم هازارد بالتاسار، وتعامله مع الحيوان، مع الحمار، كمركز للقصة.
يقول بلا تار عن الفيلم: «عندما بدأت في هذا المشروع كنت أعرف أنه سيكون آخر أفلامي، وعلى المتفرج أن يعرف أيضاً أنني أردت حقاً أن أجعل الفيلم بسيط جداً، فأردته أن يكون فلماً نقياً جداً. نحن نفرض كيف ستكون نهاية العالم، الحصان سوف ينتهي، الحياة سوف تنتهي؛ بهذه البساطة، على المتفرج أن يثق بعينيه، بكل بساطة وبدون تعقيدات.»
إذن «حصان تورينو» خاتمة رحلة بيلا تار السينمائية ولكن أتصور أنه حتماً سيعود لصناعة الأفلام، ولكنه ينتظر النداء، النداء السينمائي العميق، أو بأسلوب هيدغر:
سيعود من يبلغه النداء،
نداءٌ عظيم، في أعماق ما ينتمي إليه،
وكأنه ملعون، لعنة سعيدة...
- حسن الحجيلي