دأب الروائيون الروس بالعزف على وتر الحرية كعلامة فارقة تُسجّل للأدب الروسي منذ منتصف القرن الثامن عشر ولكن العبودية ليست شكلاً واحداً كما يُعتقد في الغرب الأمريكي وضواحي أوروبا كما رأيناه عند سولون نورثوب أو أليكس هيلي بل تتعدد أقفاص العبودية وحرًاسها ورقّها حيث إنها تصب من ينابيع شتّى بكل الأشكال والألوان والممارسات في رافدٍ واحد ألا وهو العبودية بكل معانيها وإن اختلفت الأوجه !
فكلمة ( المر ) وهي جوركي التي تبناها مكسيم في اسمه ما هي إلا عنوان على مرارة حكم القياصرة ومع أن البلشفيين الاشتراكيين لم يكونوا أحسن حظاً إلا أن لكل جديد لذة وهذا ما عبّر عنه في الرواية بدكتاتورية الأب وقوانينه الصارمة حتى حانت لحظة الحرية بموته المفاجئ ! وقد يكون الاحتواء الذي تبناه لينين له عامل مشترك في اتبّاع الاشتراكية الاقتصادية في الأدب ! فالواقعية أجمل ما تكون في الرواية الروسية لأنّ حبكاتها أو العقدة تسير برتابة سلسة نحو النهاية بأبعادها النفسية والعضوية دون تكلف أو مبالغة خيالية وأسلوب مكسيم جوركي سلس للغاية وبلغة راقية وبأسلوب قد يختلف عن كثير من الروائيين الروس بحيث يتميز بالحوار المتقن بانتقاء المفردات القوية التي تنم عن جدّية المشهد بجمل أكثر رصانة وواقعية هكذا تجدها حين تقارنها مع كثير من الروائيين الروس الكبار أمثال دوستويفسكي !.
معاناة فقد الوالدين مبكراً لا بد أن تظهر آثارها وانعكاساتها في روايات المؤلف هكذا أصبح مكسيم وهو حدث بعد فكانت الجدّة هي الملهم الأول وبداية الطريق نحو الأدب الروائي !
فحكاية العبودية مقدمتها فقدان الأم ثم الأب أما بمفهومها الشامل فهو مصطلح معقد كل التعقيد وفضفاض بجيوب عديدة ومكسيم جعل العبودية سجن كبير مختلط بمآسي الإنسانية وأمراضها وتعقيداتها من الأمراض العضوية ثم الشك وسوء الظن والوهم والاكتئاب وغيرها التي تفتك بالإنسان عامة والرجل الروسي خاصة الذي مرت عليه كل تلك المحن في القرن التاسع عشر ومطلع العشرين فحصدت الكثير منهم وتركت الكثير لعاهات الزمن حتى أدركهم الموت ! ولعلّ أهمها الحب الأعمى والانقياد له والمهانة التي عانى منها وتقيد بها بطرس في حب لا ريسا وهي عبودية في منتهى الذل لم يظفر منها حتى ولو بالتفاتة رقيقة فيها نوع من العاطفة الحانية التي تدل على جبر الخواطر مقابل الخدمات الجليلة المقدمة من شخص تقمص دور العبد في تلبية احتياجات من يحب ! وقد ترك مصنعه الذي ورثه من أبيه بعد وفاة أخيه الذي لم يصنع شيئاً بشهادته حين ظل خلف لاريسا وألاعبيها وهذه دلالة على خسارة فادحة للاقتصاد حين يتبع المرء عواطفه وقلبه ويترك لقمة عيشه فهذا وكسالى القوزاق الذين يلومون الأرض الجدياء دون أن يحرثوها بسواعدهم لا يستحقون العيش لكونهم لا يدركون الاشتراكية الاقتصادية التي فيها تتوزع الثروات وينعم الجميع سواسية كأسنان المشط دون تمايز بين طبقة وأخرى ودون أن يرى جياعاً يتحايلون على الناس بالصدقة في روسيا فيركلونهم أصحاب النعم وهذه دعاية رائعة للبلشفيين الذين كانوا راضين كل الرضا عما يرويه جوركي للناس حتى وإن كان مخالفاً للحقيقة ! وفي العنصر الديني خلط التعاليم المسيحية بشعار الإلحاد اللينيني كترويج مهم للدعاية السوفيتية آنذاك باستفسارات الأخ كوليا الذي انتحر مكتئباً جرّاء همومه وما نتج عن صراعه النفسي !
ليست قصة الحمام إلا مجرد فلسفة وجودية لجوزديف الذي عبّر عنها لرئيس التحرير بالحرية التي لا تعرف شروط الحياة كالطفل الصغير قبل أن ترهقه همومها وترميه كبيراً كالخرقة البالية ، هكذا تعبير الحرية مقابل عبودية الفرد التي تفقده كل مايملك إن أصغى لها وانجرف معها حتى يكون هلاكه فيها.
- زياد بن حمد السبيت