3ـ وكما تُكوِّن ردودُ الفعل خطًّا مساندا تنكشف من خلاله بعض المضامين الخفية في الرسالة الظاهرة (مسلسل حارة الشيخ هنا) ؛ كذلك تكوّن أمورٌ أخرى تحفّ بمتن العمل الفني خطوطا مساندة إضافية تكشف المضامين الغامضة في الرسالة، وذلك كعنوان العمل الفني «حارة الشيخ» وكأغنية المسلسل، فلنتأمل في هذين الأمرين:
مفردة «الحارة»:
يشرح أحمد أمين الدلالة الاجتماعية الثقافية لمفردة الحارة بقوله: «هي تُكوّن الوحدة الاجتماعية بعد الأسرة، فالأسرة في البيت ، والحارة تنتظم مجموعة من البيوت أو الأسر، والشارع يمدّ الحارة بالوسائل التجارية.. وبين سكان البيوت في الحارة الواحدة روابط متينة فيشتركون في المآتم والأفراح، ويتسامرون في المنادر. وكل رجل في الحارة يعرف بقية الرجال..وبها يعتزّ أبناؤها وإليها ينتسبون؛ فيقولون نحن أولاد الحارة الفلانية، كالعادة القديمة في الافتخار بالقبيلة.
وعلى كل جملة حارات شيخ يسمى شيخ الحارة، يزعمون أنه يعرف أهل الحارات التي في اختصاصه..» ( قاموس العادات والتقاليد ..152).
فالحارة في سياق التنازع الخفي على الهوية الثقافية تقابل القبيلة، وعمدة الحارة أو شيخها يقابل شيخ القبيلة، ولذا فمفردة «الحارة» تقوم هنا بوظيفة رمزية مهمة في سياق الصراع الخفي على الهوية الثقافية (ما يظن المصطرعون أنه هوية !) ، وكذلك مفردة «الشيخ» المضاف إليها. وكما يتشرف القَبَليّ ـ في سياق تنازع الهوية ـ بقيم القبيلة من أخوّة وتعاون وكرم وفروسية كذلك يتشرف الحارِيّ بقيم الحارة المماثلة من نخوة ومُرُوّة وفتُوّة وغيرها مما نصّت عليه أغنية مسلسل حارة الشيخ. وكما يعتزي ابن القبيلة بقبيلته كذلك يعتزي ابن الحارة بحارته على ضوء ما نصت عليه الأغنية من مفردة « العُزْوة « ، كما سنرى في نص الأغنية التي تُعدّ متنا عاطفيا مركّزا يبرز النقط الجوهرية المشعة التي تكتنز بها عبارة «حارة الشيخ» .
أغنية حارة الشيخ:
الأغنية تقول ما لا تقوله الدراما، لأنها أشد رسوخا في الضمير الشعبي وأصدق تعبيرا عن عواطف العقلية الشعبية وخيالاتها، وهي أيضا الأقدر على تلخيص الرسالة الفنية الثقافية العميقة التي تريد الدراما إيصالها في حلقاتها الكثيرة التي ينشغل أغلب المتابعين بجزئياتها وتفاصيل أحداثها عن مضمونها الجوهري ورسالتها الثقافية، فتأتي الأغنية في البدء لتلخص هذه المضامين الجوهرية بأسلوب فني عاطفي مؤثّر. تعبّر أغنية حارة الشيخ عن هذه المضامين الجوهرية في النص التالي:
(حارة الشيخ يا «أُخُوّة».. يا لُبّ القلب من جُوّا
يا «أصل وفصل يا معنى».. يا طيبة يا «نخوة يا مروّة»
دا فيكي نخوة الصاحي.. وفيكي الواشي الكدّاب
ونلقى «حكمة الشايب».. تقابلها «فتوّة شاب»
ونبقى حاضر وغايب.. يا حارتنا أهل واصحاب
وتبْقيْ «عزوة وقوة».. حارة الشيخ يا أخوّة
يا حارتنا يا « لمّة» كل عيلتنا.. يا أصحابي يا أخواني يا جيراني يا شلّتنا
يا حارتنا يا «حضن» وفيكي راحتنا.. زقاقة زقاق.. لقى وفراق..أهل عشاق.. «دي حالتنا»
يا محلى طلتك للناس ..يا «نور جدة»
يا ذوق وحشوته احساس ..حلى ايه دا
يا هو يا هِيّا يا هُوّا .. حارة الشيخ يا أخوّة)
فكل هذه القيم الاجتماعية التي يُتغنى بها (الأخوّة ، الأصل ، الفصل ، المعنى ، النخوة ، المروّة ، الحكمة ، الفتوّة ، العزوة ، القوة ، الَلمّة [ تعني التعاون والاجتماع ] ، الحضن [ تعني الاطمئنان الاجتماعي والخلاص من الغربة ]) ؛ كل هذه القيم تُوظّف لا شعوريا في سياق الصراع على الهوية الثقافية (ما يظن المصطرعون أنه هوية !) ضد القيم المقابلة التي يتغنى بها ابن القبيلة. ومع أن القيم واحدة هنا وهناك لكن التعصب العنصري ــ في الطرفين ــ له رؤية أخرى ؛ فصاحبه ــ كما سبق شرحه ــ مصاب باختلال في ميزان المقاصد الثقافية ؛ فيرى أن الأنماط الثقافية المتنوعة هي القيم العليا والمقاصد الكبرى، ومن هنا يتعصب لها ويوالي ويعادي عليها.
ولغة الأغنية لا تمثل إلا لهجة طبقة اجتماعية معينة تَكرَّر توصيفها فيما سبق، كهذه المفردات: «جُوّا ، دا ، دي ، فيكي ، كدّاب ، عيلة ، هِيّا ، هُوّا». وكهذه العبارات : «يا لب القلب، يا محلى طلتك، دي حالتنا، حلى أيه دا». إننا أمام جوّ لغوي ثقافي يحتكر لهجة جدة في طبقة اجتماعية معينة، وتكاد عبارة «حكمة الشايب» أن تكون الاستثناء الوحيد الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها ! فهي عبارة تمثل اللهجة القبلية المقصاة من لغة الأغنية !
ونجد أن عبارة «يا أصل وفصل يا معنى « تعزف على النغمة العنصرية نفسها التي تعزف عليها الفئة الأخرى ! فمفاهيم الأصالة والنقاء والتجذر واحدة هنا وهناك، وهي تستلزم نبزا عنصريا للآخر بأنه الدخيل المَشُوب النابت !
ومع أن ظاهر أغنية «حارة الشيخ» يصور البيئة الاجتماعية للحارة فقط ، وهي (أعني الحارة) شكل من أشكال مدينة جدة القديمة التي تضم مناطق داخل السور وخارجه، وتحوي طبقات اجتماعية متنوعة ، وسياق الأغنية من أولها إلى قُبيل آخرها ينسجم مع هذا الظاهر، بدليل تكرار لفظة الحارة خمس مرات ؛ مع هذا الظاهر تفاجئنا الأغنية في آخرها بأن المقصود هو جدة كلها! وأن الحارة كما تصورها الأغنية ثقافةً ولغةً ليست إلا أنموذجا لثقافة جدة ولغتها، وذلك حين تقول الأغنية:
(يا محلى طلتك للناس ..يا «نور جدة»)
فحارة الشيخ هي نور جدة ، لأنها هي «الأصل» الثقافي و«الفصل» الحضاري و«المعنى» الوجودي، أي أن كل ماهو خارج سور جدة القديمة الذي يُطِيف بالحارات - كالبادية والقرية اللتين تضمان القبيلة - دخيل ومنبوذ ولا معنى له ثقافيا ولغويا ووجوديا حينما يدخل إلى المدينة ! لأنه سيكون المضاد للنور المشع من الحارة وقيمها؛ أي سيكون مصدرا للظلام الذي يرمز للتخلف وتشويه ثقافة المدينة وحضارتها!
ومن هنا تقوم عبارة «يا أصل يا فصل يا معنى» مع عبارة «يا نور جدة» في هذا السياق بوظيفة ثقافية خفية تضاد ما تقوم به كلمات ثقافية في الطرف الآخر من وظيفة عنصرية أو احتكارية كمثل « الأصيل» و«الدخيل»، و«القبيلي» و«طرش البحر»..إلخ.
وسم «هوية الحجاز»:
كان ما سبق من تحليل لجدلية الصراع الخفي بين النسقين الظاهر والخفي خاصا بخطاب «حارة الشيخ»، أما ما يخص وسم «هوية الحجاز» فظاهر الخطاب فيه - كما سبق ذكره - التعريف بثقافة الحجاز «الأصيلة» التي تتجلى في أنواع الأطعمة والملابس والفنون الشعبية وألعاب الفروسية.. إلخ ما يسمى في الأنثروبولوجيا الثقافية : «أنماط الثقافة»، وهي تختلف - كما سبق توضيحه - عن الهوية الثقافية التي تتكون من القيم الثقافية العليا والمقاصد الكبرى، ولكنها في تصور هؤلاء هي الهوية التي يوالَى ويعادَى عليها، وهذا اختلال في موازين القيم يدل على وجود مرض ثقافي في الثقافة سميتُه «التراثية» كما سبقت الإشارة إليه (أفضتُ في تحليل هذا المرض وبيان مظاهره المزدوجة لغويا وثقافيا في كتابي: نظرية العرف اللغوي - نحو منهج في علم اللغة الثقافي).
وأما نسق خطاب الباطن الخفي لوسم هوية الحجاز فإنه ينطوي على رسائل مخالفة لهذا النسق الظاهر البريء ؛ فهو يعبر عن إقصاء عنصري مقابل للاحتكار الذي ينطوي عليه النسق الباطن في خطاب حارة الشيخ، ويتسم هذا الإقصاء لدى بعض الأفراد بالعنف الشديد لغويا وثقافيا؛ فلا يجدون في أنفسهم حرجا في نبز إخوانهم في الدين والعروبة والوطن بالدخلاء والأجانب والمهاجرين والوافدين والمجاورين ، والآخرون يستعملون أيضا - كما سبق ذكره - بعض هذه المفردات كالمهاجرين والوافدين والراحلين !! فالمعجم اللغوي الثقافي واحد لدى الفئتين المتنازعتين على ما تظنه «هوية الحجاز»؛ إذ الألفاظ العنصرية واحدة لديهما ، وإن اختلفت متعلَّقات المعاني ؛ فكل طبقة اجتماعية ترى عادات الأخرى دخيلة على هويتها التي هي في اعتقادها الممثل الحقيقي الأصلي لهوية الحجاز ، ونفسّر ــ تنزّلا ــ : أي دخيلة على أنماطها الخاصة وليس على الهوية العامة ، نقول هذا تنزلا فقط ، وإلا فقد سبق تصحيح الفكرة وتصويب الخطأ لدى الفريقين بأن الأمر ليس فيه دخيل ولا أصيل وإنما هو تنوع إيجابي بين الأنماط ، وتلاقح وتعايش ، هكذا يكون الأمر في حالة التوازن الثقافي الصحّي قبل أن تصاب العلاقات الثقافية باختلال في موازين القيم والمقاصد العليا فتحدث الأمراض التي أشرنا إليها كالتراثية والعُجْمة والتلفيق والعزلة (انظر في تحليل هذه الأمراض كتابنا المشار إليه آنفا) .
والذي يعنينا هنا مرض «التراثية» الذي تغيب فيه المقاصد ويتعلق الإنسان فيه بالأشكال والأنماط والوسائل منزِّلاً إياها منزلة المقاصد العليا والقيم الكبرى ! فتحدث العداوات الثقافية بين الإخوة المشتركين في قيم جوهرية واحدة بسبب تعصب كل فريق لأنماطه النوعية الخاصة ، فيعتصم بالمتغيرات ويوالي ويعادي عليها بقدر تضييعه للثوابت ونسيانه لها وغفلته عنها.
والمنطق الذي يقوم عليه خطاب «هوية الحجاز» يتكون من ثنائية الأصيل والدخيل، فيجعل الأنماط الثقافية لدى القبيلة هي الأصيلة، ويجعل أنماط مَن ينبزهم الخطاب بالمهاجرين والوافدين والمجاورين هي الدخيلة، ثم يرتّب على ذلك تفريقا وتمييزا في الحقوق الثقافية والاجتماعية والأدبية والإعلامية ..إلخ ، فلابد أن يتفوق أصحاب الثقافة الأصيلة على أصحاب الثقافة الدخيلة بسبب أصالتهم الثقافية لا بسبب أدوارهم الاجتماعية ونتائج أفعالهم وإنجازاتهم . فلا نجد في خطاب هذا الوسم ما يدل على الاهتمام بأفكار التنوع والتمازج والتعاون بل نجد أفكار التمييز الطبقي والتحيز الثقافي والإقصاء العنصري، كما لا نجد حضورا لمبدأ « قيمةُ كلّ امرئ ما يحسنه « ؛ بل نجد الحضور الطاغي هو الفخر بالأنماط الثقافية ووسائلها (بعد تصوّر أنها هي الهوية الثقافية!) ، والأمر كذلك لدى الفئة الأخرى كما سبق بيانه من احتكار ثقافي وتعنصر عرقي، ولا فرق إلا في النسق الظاهر من حيث علوّ نغمة التحيز لدى فئة أشد منها لدى فئة أخرى، أما في النسق الباطن الخفي الذي تكشف عنه العلامات الظاهرة فلعلهما على درجة واحدة من التحيز والاحتكار.
ومنطق الأصيل والدخيل في سياق تنازع الهوية الثقافية تعبث به الذاتية ؛ فما معيار كل من الأصيل والدخيل هنا ؟ هل المعيار زمني ؟ أم مكاني ؟ أم يتعلق بالأغلبية ؟
فإن كان المعيار زمنيا ؛ فلا شك أن الأصيل سيكون نسبيا ؛ فما من أصل حينئذ إلا كان فرعا بالنسبة لما هو أقدم منه ، أي أن وصف الدخيل حقيقة في تسلسله التاريخي ، فلا يمكن أن يكون أصيلا أصالة ذاتية مطلقة لا تَعلّق لها بغيرها مما سبقها أو عاصرها . على أن مجرد السبق الزمني ليس فضيلة أو قيمة معتدّا بها في باب تحديد الهوية ؛ فالهوية تتحدد من خلال قيم الثقافة الكبرى ومقاصدها العليا كما سبق ذكره، ومن ثمّ فلا يصح تنازُع الهوية إلا على هذا الأساس، وهو أمر مفقود في الحالة التي يطرحها الموضوع ، لاتفاق الفئتين على قيم مشتركة واحدة .
وإن كان المعيار مكانيا؛ فلا نعلم نمطا ثقافيا نابعا ـ بكل ما يحويه من أشكال ووسائل ـ من مكان واحد دون أن يشترك معه مكان آخر في تكوين ذلك النمط ، سواء كان ذلك في اللغة أم في القوانين الاجتماعية أم في الملابس أم في الأطعمة أم في الفنون أم في سوى ذلك من أنماط الثقافة ، فهذه الصورة الانعزالية المطلقة ليست إلا خيالا لا وجود له في مجتمع من المجتمعات الطبيعية . ويزداد اتضاح ذلك كلما كانت البيئة الثقافية أكثر انفتاحا وتمازجا مع الآخرين ، وكلما كان تاريخها في الانفتاح والتعايش والامتزاج أعرق وأرسخ من غيرها من البيئات الثقافية العالمية ، ولا نعلم بيئة ثقافية معاصرة يصدق عليها هذا الوصف أكثر من صدقها على البيئة الحجازية . على أن النمط الثقافي الذي تَكوّن عبر عملية انتخاب ثقافي تنوعت فيه العناصر الثقافية زمانا ومكانا أرقى بلا شك من نمط منعزل تماما ، فهذا ـ لو أمكن وجوده ـ سيكون نمطا في غاية الفقر والعجز عن تلبية حاجات أهله ، ويستحيل استمراره وتطوره دون عملية الانتخاب الثقافي .
وإن كان المعيار بالأغلبية ؛ فسواء كان المقصود أغلبية العدد أم أغلبية القوة فكلاهما ليس معيارا موضوعيا تتحدد من خلاله الهوية الثقافية التي تتحدد من خلال القيم والمقاصد كما ذُكِر ، وأولى أهل الثقافة بالانتساب إلى هويتها والاعتزاء بها هم أشدهم وعيا بها وتحقيقا وتمثلا لها فكرًا وسلوكا.
- د . خالد الغامدي