تقديم المترجم: يسعدني تقديم ترجمتي لهذه الدراسة النوعية المهمة للبروفيسور مائير هاتينا. البروفيسور هاتينا هو أستاذ في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، الجامعة العبرية في القدس. ونشرت الدراسة في مارس 2011:
(ب) حجة خالد «العملية»
إن المنطق المعياري للحكومة الدينية هو تحرير الإنسان من قيود شهواته وخضوعه لنظام حظر وعقوبات يقصد به تعزيز التماسك الاجتماعي في إطار إيمان مُقْنِع؛ ولكن زعم خالد أن القوة الحقيقية للدين تكمن في القدرة على إلهام المؤمن للتعبير عن حاجاته الروحية من دون الاعتماد على السلطة التشريعية للحكومة. كما أن هناك عقوبات قرآنية (حدود) بنسب مختلفة. فعلى سبيل المثال، السرقة للحصول على القوت تلغي عقوبة قطع اليد. كما أن اتهامات الزنا أو شرب الخمر تتطلب شهادة مباشرة من قبل العديد من الشهود، أو اعتراف الجاني، لكي يثبت الجرم قبل تنفيذ الحد. وفي حين أن الغياب الكامل للرقابة الأخلاقية في المجتمع ليس جائزاً ولا مرغوبا فيه، يشير خالد، فليس هناك ثمة ضرورة لتأسيس حكومة دينية من أجل معاقبة مرتكبي هذه الجرائم. فيمكن فرض الحدود في إطار الأنظمة القانونية القائمة، إما مباشرة أو عن طريق سن تشريعات تكميلية؛ فالقانون الوضعي، مثل الشريعة، يستند على العرف الشائع والمصلحة العامة والتفكير العقلاني. (44)
الأزهر والإخوان يتهمان خالد بخدمة
الأهداف الخبيثة للإمبريالية الغربية
واستنتج خالد على أساس هاتين الحجتين أن الحكومة الدينية في العصر الحديث لا تقدم أية ميزة للمسلمين، وأنه لا يوجد بديل عن فصل الدين عن الدولة. فهذا الفصل سيحافظ على الدين كحقيقة أخلاقية سرمدية يمكن الاعتماد عليها لتحمل التغيرات التي تعد جوهرية في أعمال الدولة. وفي المقابل، سيسمح مثل هذا الفصل للدولة بالاحتفاظ بوظيفتها الطبيعية كإطار سياسي لتحقيق العدالة الاجتماعية والحقوق المدنية. وبالرغم من أن الطغيان قد ينبع بالمثل من حكومة وطنية غير دينية، فإنه لا يمكن ممارسته بحرية ولا استمراره إلى أجل غير مسمى بسبب قوة الردع التي يشكلها الرأي العام والبرلمان والمحاكم. أكثر من ذلك، الحكومة الوطنية ديناميكية وتطورية وغير مقيدة بنقاط الضعف الجوهرية في الحكومة الدينية كالجهل والجبرية. (45) ولم يكن من المستغرب أن يؤدي نشر كتاب «من هنا نبدأ» إلى صدور إدانات واستنكارات قوية ضد خالد من الدوائر الدينية التي زعمت أنه على يد خالد خسر الإسلام أهميته الفريدة وأصبح مجرد «مصدرا للقوة والإخاء والمساواة»، وأخلاقياته تتكشف فقط كنقيض للسياسة الدنيوية وفقط في حالة الرضا الاجتماعي. (46) وزعم الأزهر والإخوان أن مناشدة خالد فصل الدين عن الدولة تخدم الأهداف الخبيثة للإمبريالية الغربية، أي تدمير المعنى الحقيقي للإسلام. (47)
الشيخ محمد الغزالي يرد على خالد بكتاب «من هنا نعلم»
ولكن الإخوان كانوا غير مبالين بمزاعم خالد عن الإفلاس الأخلاقي للمؤسسة الدينية. فمن وجهة نظر الإخوان، كانت استعادة سمعة الأزهر تعد أمراً هامشياً بالمقارنة مع الحاجة إلى إعادة الإسلام إلى مقعد السلطة. وفي الحقيقة، لم يبذل محمد الغزالي (1916-1996)، الذي يعد أهم منظري الإخوان، أي محاولة لإخفاء ازدرائه الشخصي للأزهر، مدعيا أن خواءه الفكري سهل ظهور الأفكار المنحرفة مثل تلك التي عبر عنها خالد وعبد الرازق قبله. (48) فقد فند الغزالي أفكارهما في كتابه «من هنا نعلم»، الذي صدر بعد فترة وجيزة من ظهور كتاب خالد.
واتخذ الغزالي موقفاً معاكساً لخالد، حيث زعم أن أية أفكار أخلاقية تهدف إلى إصلاح حياة الأفراد والمجتمعات لا يمكن تحقيقها إلا في إطار سياسي إلزامي، نظراً لأن إصلاح الأفراد بالثقة وحسن النية عبر النصح الجاد ليس واقعياً. وهذا ينطبق على الثورة الفرنسية والثورة الشيوعية، وهو صحيح أيضا، بالنسبة إلى الإسلام الذي هو بطبيعته أكثر نبلا ونقاء من الثورتين المذكورتين. وجادل الغزالي بأن الرسول جمع السلطتين الدينية والدنيوية معاً في شخصه. وشغل نفسه بمسؤوليات دنيوية، مثل القضاء والاتفاقات السياسية والقيادة العسكرية ليس بسبب قيود وضرورات ظرفية، كما زعم خالد، ولكن بصفته وسلطته كنبي معه رسالة من الله وكان الحكم جزءا منها. لقد كانت هذه الطبيعة الحقيقية للنظام الإسلامي الذي تركه محمد للمسلمين، والذي بذل الناس طاقاتهم لحماية كل من الدين والدولة. (49) ولم ينف الغزالي أن الاستبداد كان ولا يزال سمة الحكام المسلمين، ولكن هذا لا يعيب الإسلام ولا التاريخ الإسلامي. وفي السياق المعاصر، فإن حقيقة تطبيق بعض الدول للحدود لا يجعلها حكومات إسلامية كما افترض خالد. (...). وفي رأي الغزالي، فإن بعض الفروض الدينية يتعين تطبيقها من قبل الفرد مباشرة (كالصلاة والصوم)، في حين أن البعض الآخر يتم بواسطة الدولة ( كالجهاد والزكاة)، وهي ضرورية لتحصين الدين ولكنها تتطلب ارتباطا ضمنيا مع الحكومة، لأن تنفيذ الجزء الجماعي من هذه الفروض من قبل الفرد من تلقاء نفسه غير عملي ويعيق أداء الدولة. ولذلك، لا يمكن أن يكون هناك فصل وظيفي بين الدين وبين الدولة في الإسلام. فيجب على الدولة «حماية الدين... وفرض تعاليمه والإشراف على شؤون المؤمنين». (50)
ورفض الغزالي أيضاً زعم خالد أن غموض القرآن يسمح بتفسيرات متعددة، بما في ذلك من ضمن أمور أخرى، تبرير تشكيل حكومة وطنية طالما أنها تصرفت لتوفير الرعاية الاجتماعية. أولا، جادل الغزالي، القرآن عام وليس غامض، ما يثبت فضيلة الإسلام كدين استيعابي قادر على التكيف مع روح العصر، وهي خاصية مكنته من الاستمرار. ثانيا، الانجذاب إلى النموذج الغربي للحكومة الوطنية باعتبارها شكل الحكومة المفضلة لا أساس له؛ فقد بقيت المبادئ الغربية المزعومة عن الديمقراطية والحقوق المدنية في المجال النظري فقط، نظراً لممارسة إنكلترا وفرنسا عملياً الاستغلال والاستعباد للبلدان الواقعة تحت سيطرتهم. بل حتى الولايات المتحدة، التي يعتبرها كثير من المسلمين بأنها خالية من الطموحات الإمبريالية، وكمبشرة بعهد جديد، أكثر إنسانية وعدلا، ثبت أنها شريكة في النوايا الخبيثة نفسها، وهي تحديداً تدمير الإسلام كدين بعد التسبب في زواله كحكومة.
يتبع
ترجمة وتعليق/ د. حمد العيسى - الدار البيضاء
hamad.aleisa@gmail.com