بين الشعر والشاعر مسافة ذاكرة مكتظة، فلم يعد الشعر ذا شرارة تقدح الأبيات، بل انصهر في ألوان الأحبار القديمة, وتماهى في رائحة الورق, وكُتب بلغة الطير, ونقوش الأبواب الصامدة عبر التاريخ, تقمص تجاعيد وجه شيخ بدوي لم يمل يوماً رائحة قهوته ولهب حطبه, ولم يعد ومضة فكرة, وبلاغة حكمة, بل أصبح تاريخاً مختبئاً في أحرف كلمة, وشخوصاً يفكرون ويعبثون في الكلمات, وينشدونها بأصواتهم كما يحلو لهم بالكامل تارة والهجيني تارة أخرى. بصوت جلجامش « أنا الذي رأيت كل شيء» يعتون فايز ذياب ديوانه, هذا العنوان الذي يعود بنا إلى ملحمة جلجامش حين قال: « أنا الذي رأيت كل شيء» تشير إلى حالة إيمان تام بالحلم, وإلى الغرق الضمني في الذات, عندما تراءى له جلجامش وأشار إليه « أنت الذي رأيت كل شيء» وفي ذلك دلالة على معنى فلسفي وإن كانت الإشارة إلى ذات واحدة, معنى يصل إلى عمق الشاعر الذي يرى الأشياء بالوعي لا بعين الإنسان. حالة الوعي والإدراك التي شعر بها جلجامش ثم رأى من يستحقها في الآن وأشار إليه، هذا المعنى الذي يمتد للشاعر الذي يصل شعره إلى الآخرين ويعبر عن ما يشعرونه كأنه يرى آلام البشر ومشاعرهم، فقد كُشفت له القلوب وسمع أنين الحنين ووهم الحلم، وهو الذي يرى الأموات والأحياء ويسمع الأصوات، ويشعر بالطين والماء.
كتب توطئة عنونها بمواربة!! شيء من الحقيقة وليست الحقيقة كلها، حقيقة انبثاق الشعر والإحساس به، وحقيقة الوصول إلى المتلقي، فهناك ما يخفى عليك من طرق الوصول إليك، والتحقيق مع قلبك وأشيائك, وسيُخفي عنك السر الأعظم بين الشاعر والشعر والمتلقي. فالشاعر استأثر بعضه ولم يفصح عنه، وعندما نقابل الشاعر بالمتلقي، يتبين أن بعض المتلقي هو بعض الشاعر، فحالة إبداع الشعر من ذات هي في حقيقتها من مجموعة ذوات تتجلى في ذات شاعرة تتولى التعبير عنها.
وعمد في قصائده على تقنيات ولعب بالكلمات، فيناصص القصائد مع الشعر العربي والقرآن الكريم والأساطير وفلسفة النور والنار والرؤى الفارسية القديمة، ويبادل المعاني في (أول الباءات) فالربيع طار والعصفور أزهر! ويُلغز المعنى في (قهوة الظلماوي) بين مكونات القهوة وبين وزن بيت الشعر، ويرجع إلى الأمام في قصيدة (رجوع إلى الأمام) ويترك المتلقي هائماً بين العدد اثنين في (صوتان) و (فاءان)، وبين عنونة القصائد بالحروف (الباءات - فاءان)، وفي قصيدة أخرى نجد ذات الثنائية بين الحرف والعدد «(حرفان) من طين السماء وآخران كجذع نخلة»
هذا (الإيوان) كما أطلق عليه شاعره عوضاً عن الديوان، يم متلاطم الأمواج يقذف بالبحار بين الثقافات المختلفة، فإذا سلمت أن الأثر الأكبر فارسي يقذف بك في عمق العربية، وإذا بحثت عن الأساطير تغرق في البدايات والتهويمات والنبوءات، وتقابل الحداثة سحر البداوة.
- إيمان الحربي