في أول أيام الشهر الفضيل يتغيّر كل شيء، وقت الأكل والنوم والفرح والمرح ونفسيات البشر حتى غير المسلمين منهم. تشعر صباحاً أنك منتصر على الروتين والتلقين والكذب والسرقة والفجور والحرقة والفقر والذل. وإذا كنت قد تسوّقت قبل الجوع تكون قد كسبت فائضاً نقدياً أبيض لأي يوم أسود، وخصوصاً أن عروض السلع قبل وفي وبعد رمضان تجعلك تعجب، كيف يربح التجار؟ وإذا كانوا يربحون بهذه الأسعار، إذن كم كان ربحهم قبل رمضان؟ أم أنهم يبيعون بسعر الشراء كصدقة قربة إلى الله سبحانه؟ ولكن إذا كان هذا سعر الشراء كم كانوا يربحون مني ومن غيري سابقاً؟ هل كانوا كفرة؟ .. أستغفر الله أقصد هل كانوا عُصاة ثم تابوا في رمضان؟ وهل التوبة عن النهب واستغلال الناس لا تجوز إلا في رمضان؟ وأين الرقابة؟ أم أن الرقيب تاجر أيضاً؟
مالي أنا ومال التجار أو الفاسدين أو غيرهم، سواء في أول يوم أو كل أيام رمضان؟ اللهم إني صائم! سأترك التفكير السلبي في أي أحد أو أي شيء، فهذا من شروط الصوم السليم والله أعلم! سأوجه كل طاقاتي لمواجهة الرغبة في الأكل أو الشرب أو التفكير السلبي (اللي ما يودي ولا يجيب) وأحاول تجميع كل ما هو إيجابي من تفكير وسلوك حتى أكسب أكبر ما أستطيع كسبه من أجر!
مع وقت الغداء الروتيني تسلل الجوع الي فقاومت وأنا أشعر بانتصار، وبعد العصر بدأت أشعر بالوهن والخمول والدوخة. حاولت النوم فلم أستطع لأنني لم أتعود على النوم وأنا جائع، وكما عودونا أهالينا نأكل حتى التخمة ونذهب للفراش... فتحت التلفاز وأغلقته مباشرة لأن القنوات كلها تعرض الأكلات والطبخات الرمضانية الشهية، وربما أستطيع متابعتها والاستمرار بالصوم فأنا قادر على ذلك وسيكون أجري أعظم، وسأفكّر بالفقير على أية حال، وأتصدّق وأنا المنتصر، ولماذا تعذيب النفس إذا كان بالإمكان تحاشي ذلك؟ من الأفضل أن أفكّر بجميع فقراء العالم وأهزم الجوع والوهن والعطش والنفس الأمّارة بالسوء دون برامج تلفزيونية.
على الرغم من الدوخة رحت أفكّر بالفقراء من جميع الأعراق والأديان، وبالدول الغنية التي لا تشبع والدول الفقيرة التي لا تموت! هل الفقراء يصيبهم وهن؟ نعم بالطبع! ولكن كيف يمكنهم التفكير وهم في وهن أبدي؟ قطع سلسلة أفكاري الفقيرة صوت المدفع وأذان المغرب، وكانت (اللقيمات) والدبس جاهزين، فانطلقت بسرعة البرق، وكأنني لم أعرف الوهن في حياتي، وصرت التهم اللقيمات والدبس دون اكتراث لأي مضاعفات طبية، وأفكر كيف سيكون طعم الشوربة والمكرونة بعد الصلاة، وكيف سيكون طعم (العيش الحساوي) الغارق بالسمن البلدي في السحور.
لمن لا يعرف العيش أو الرز (الحساوي)... لونه مائل إلى الحمرة وعندما يختلط مع السمن البلدي يصبح وجبة أثقل من الفول، وبإمكانك الصيام ثلاثة أيام متتالية بعد الوجبة الواحدة! لذلك لا تفتخر أنك قهرت الجوع بعد العيش الحساوي حتى أذان المغرب. ما يثير الدهشة أن المهاتما غاندي قرر الصيام حتى الموت احتجاجاً على قانون التمييز ضد المنبوذين الهنود في الانتخابات، مما أحدث حالة استنفار لدى رجال الدين والدولة وأصدروا مرسوماً بإلغاء قانون التمييز، وهو حتى لم يسمع بالعيش الحساوي! ألم يصب بالوهن؟ هذا مستحيل، كيف انتصر إذن؟ لا بد أن وهن غاندي أقوى من الجلاد! وهو الذي كرس مفهوم انتصار الوهن على السيف، ولا أعلم كم يوماً قد صام هذا الرجل الأسطورة، والصيام لديه هو الامتناع عن الاكل حتى الموت.
جسد غاندي هذه الأسطورة حيّة أمام الشعب الهندي فهب لنيل استقلاله من أعتى امبراطورية في ذلك الوقت، وفتح باب الأساطير على مصراعيه في الصراعات العالمية، ولكنه كان شخصاً واحداً، أما الشعب الفلسطيني لم يستمر في حمل الراية الغاندية وحسب، بل جسد أساطير لم تخطر على بال منذ سبعين عاماً ولا يزال، ولا أستطيع استيعاب أن أكثر من ألف وستمائة أسير امتنعوا عن الطعام 41 يوماً، إنما انتصار الوهن يجسده الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي إذ قال:
قل للعدو أراك أحمق لا تزال
فاوضهم على ما شئت واطلب منهم وقف القتال
اعرف أنك لا تخاف الطفل حياً
إنما أدعوك صدقاً أن تخاف من الصغار الميتين
- د.عادل العلي