د. عبدالحق عزوزي
على الفقهاء القانونيين الدوليين طرح مسألة ديمومة الاتفاقات الدولية الملزمة بطريقة أكثر وضوحاً وتحصينها من ويلات تغيير النظم السياسية خاصة إذا كانت تلكم الاتفاقيات متعلقة بمستقبل البشرية. ولعل أهم هاته الاتفاقيات، الاتفاقية الدولية عن المناخ، وقد تتبعنا مؤخراً التخوف الكبير الذي عبرت عنه دول العالم أثناء زيارة الرئيس ترامب إلى أوروبا وتصريحاته الصارمة، لأن انسحاب دولة من حجم الولايات المتحدة الأمريكية من هذا الاتفاق سيعطي ضربة موجعة للثقة المتبقية للفاعلين في العلاقات الدولية عن النظام العالمي وعن جدارة الدول العظمى في قيادة واحدة من القضايا الرئيسية في العالم، خاصة إذا علمنا أن هناك دولتين فقط لا تشاركان في الاتفاق الدولي عن المناخ وهما سوريا ونيكارجوا.. وينص الاتفاق على أن تلتزم جميع الدول تقريباً طواعية بمحاربة تغير المناخ عن طريق خطوات تستهدف الحد من الغازات المسببة للاحتباس الحراري مثل ثاني أكسيد الكربون الناتج من احتراق الوقود الأحفورى الذي هو وراء ارتفاع حرارة الأرض وارتفاع منسوب البحار والجفاف والعواصف الشديدة. وهو أول اتفاق عالمي للمناخ ملزم قانوناً.
وقامت دول العالم والمنظمات الدولية بمجهودات كبيرة من أجل الوصول إلى هذا الاتفاق العالمي، وكلنا نتذكر قمة رؤساء الدول والحكومات في مدينة مراكش الحمراء الذين شاركوا في الدورة الثانية والعشرين لمؤتمر الأطراف في الاتفاقية الإطار للأمم المتحدة حول التغيرات المناخية (كوب 22). وكانت قد أقيمت لهذه الغاية قرية من الخيام على 300 ألف متر مربع واستقبلت أزيد من ثلاثين ألف مشارك في هذه القمة العالمية.. فقمة مراكش الأخيرة اعتبرت «قمة العمل»، وكرست «التقدم المهم» المحرز في القمة الـ21 التي استضافتها فرنسا في 2015. لذا أوصى الخاص والعام ببذل جهود هائلة في السنوات المقبلة لبلوغ هدف الحد من ارتفاع حرارة الأرض «دون 2 درجة مئوية» مقارنة بما قبل الثورة الصناعية.. فهناك تأثيرات سلبية ستأتي على الأخضر واليابس في عدة مناطق من العالم إذا لم يتدارك ملوثو الكرة الأرضية الوضع من الآن، وإذا لم تأخذ السياسات العمومية للدول وبالأخص الصناعية الكبرى منها الوضع في إطار سياسات إيجابية وصديقة للبيئة والإنسان والنبات والشجر والدواب وهي أصل حياة الإنسان وعليها مستقبل البشرية جمعاء.. فالسياسات العمومية الجوفاء هي التي لا تفكر إلا في الحاضر وتنسى المستقبل بمعنى أنها تنظر بمنظار أناني ضيق يبتغي تحقيق مصالح اقتصادية وسياسية آنية وضيقة على حساب مستقبل البشر: «فهل سيكون لمؤتمراتنا واتفاقاتنا معنى إذا نحن تركنا الفئات الأكثر هشاشة، هناك في الجزر المهددة بالزوال، وفي الحقول المهددة بالتصحر، في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، في مواجهة قدرها المليء بالمخاطر؟ إن إشكالية البيئة هي إشكالية خطيرة، يجب التعامل معها بكل الجد والمسؤولية. لقد ولى عهد الاستعمار. كما ولى منطق فرض القرارات. فالأمر يتعلق بوجود الإنسان، ويقتضي منا جميعاً العمل يداً في يد لحمايته. ومن هنا، لا يجب إجبار الدول، منذ البداية، على القبول بقرارات لن تستطيع الالتزام بها. وهذا لا يعني أنها ترفضها، وإنما لأنها لا تتوفر على الوسائل اللازمة لتنفيذها».
نعم إنها مسؤولية جماعية تتطلب حلولاً وشجاعة جماعية لأن الأرض ليست ملكاً لنا لوحدنا فهي أمانة في أعناقنا، حتى تجد الأجيال اللاحقة أرضاً وجواً وبحراً كما تركها لنا أجدادنا تتسع للجميع وتورث لما أراد الله له أن يرثها... فباسم المصير المشترك، وباسم المسؤولية التاريخية، دعي للعمل على ترجمة التشبث بقيم العدل والتضامن، من خلال:
- أولاً: تمكين بلدان الجنوب، وخاصة الدول الأقل نمواً، والدول الجزرية، من دعم مالي وتقني عاجل، يقوي قدراتها، ويمكنها من التكيف مع التغيرات المناخية.
- ثانياً: وفاء الدول المتقدمة بتعهداتها، وتعبئة المائة مليار دولار، على الأقل، بحلول سنة 2020، والتي كانت مفتاح اتفاق باريس.
- ثالثاً: انخراط كافة الأطراف في تسهيل نقل التكنولوجيا، والعمل على تطوير البحث والابتكار في مجال المناخ،
- رابعاً: إسهام الفاعلين غير الحكوميين، من مقاولات وجماعات ترابية، ومنظمات المجتمع المدني، في إعطاء دفعة قوية لمبادرات: الفعل الشامل من أجل المناخ، وللحديث بقية.
أنا على يقين من أن انسحاب أية دولة عظمى من هذا الاتفاق، سيكون له تأثير سلبي ليس فقط على مستقبل الأرض وإنما سيحدث شرخاً عظيماً في جدار النظام الدولي ومسألة الثقة السائدة فيه، فما جدوى اتفاقيات دولية يحشد لها الملايين من الدولارات قبل أن تتبخر بمجرد توقيع بمداد واحد؟.