أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: المفاضلة بين موهبة وموهبة تتعلق بثلاث نواح لا رابعة لهن: المفاضلة بين الموهبتين في نفسيهما؛ فنقول: فلان أفضل موهبة من فلان: إما في الحفظ، وإما في الفكر، وإما في الخيال الأدبي الجمالي من حيث لو تفرغ لهذا الفن لبز فلانا المتخصص في ذلك الفن.. والمفاضلة بين ثمار الموهبتين بالنسبة للموضوع الذي يبحثه؛ فنقول: كلمة الذهبي في الرجال كلمة فصل، وكلمة ابن حجر في الحديث كلمة فصل، وكلمة العقاد في ذينك تهجس وتوجس؛ وإذن فمن يبدي حكما في موضوعات الحديث ممن أفنى عمره في دراسة الحديث نرتاح لبحثه أكثر مما ترتاح لبحث عبقري اقتحم الموضوع متنزها.. والمفاضلة بين قراءة ثمار تلك المواهب بالنسبة للقارىء المستفيد ؛ فنقول: دراسة المتخصص في أبحاث ابن حجر في الحديث خير من دراسة أبحاث الـعقاد في شتى الموضوعات، كما نقول: إن دراسة المثقف غير المتخصص أبحاث العقاد في شتى الموضوعات أكثر فائدة له من قراءته مؤلفات ابن حجر في الحديث.
قال أبو عبدالرحمن: إن طالب العلم في هذه الحياة المحدودة حريص على الاستزادة، وإشباع النهم، والاستيلاء على المعارف البشرية.. ولقد جربت في حياتي العلمية طريقة سمحة تعين على التبحر في العلم؛ ولهذا فأنا حريص على إرشاد أترابي إليها ؛ لأنه لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ فهديتي إذن أنه يجب أن يحدد طالب العلم لنفسه جلسة يومية خاصة ولكن بشرط أن تكون طويلة لا تقل عن ثلاث ساعات؛ وكلما زادت فأنعم وأكرم؛ فيوم يكون للثقافة؛ وهي الأخذ من كل علم بطرف؛ وذلك لا يكون إلا بالتصفح العاجل، والالتقاط السريع؛ بأن تأخذ موسوعة في علم لا يحتاج إلى حفظ أو تأمل من الـمعارف البشرية السهلة كالبداية والنهاية في التاريخ، والأغاني في الأدب.. إلخ؛ فتقرأ الـموسوعة الواحدة في ثلاث جلسات قراءة تصفح لا قراءة تمعن؛ ويكون همك التقاط النوادر، وجمع الأشباه، والاستدراك؛ وذلك وفق عملية الكروت المشهورة؛ ويجب عليك ألا تفرط في الكرت؛ فربما احتجته ولو بعد عشر سنين.. وقراءة التصفح هذه لن تذهب سدى لأنه سيبقى في ذهنك ملامح عامة للمباحث التي قرأتها؛ فترجع إليها إذا احتجتها.. ويوم يكون للتبحر أو التخصص فتفرغ وقتك وجهدك لبحث مسألة ما في أي فن، وتحققها، وتستوفي الأقوال فيها ؛ وبهذا تكون إماما في هذه المسألة، متخصصا فيها.
قال أبو عبدالرحمن: وبقي يوم ليس للقراءة بل للكتابة؛ فتجلس للتأمل والتفكر؛ فتسجل خواطرك شعرا أو نثرا بتفلسف عقلي، أو توهج عاطفي، أو تهويم خيالي؛ وهذا أحسن منهج عندي لإشباع النهم العلمي.. وعلى امتداد تاريخنا مضت قرون كان يقاس فيها مستوى النبوغ بقوة الحافظة، وسعة المحفوظات؛ وكانت هذه الظاهرة تلبية سريعة لظروف معينة؛ إذ كان العرب والمسلمون منهومين في تدوين تاريخهم ولغتهم وأدبهم وأحاديثهم ؛ وامتازت مؤلفات تلك الحقب بالجمع، وربما أنفق بعضهم عمره في دراسة كتاب ، ثم في حفظه، ثم في تدريسه وتحفيظه.. وفي طلائع النهضة الحديثة، واقتباس مناهجنا التعليمية من منهج الغرب التربوية: رأى روادنا أن التفرغ للحفظ لا يلائم منهج الاستقراء والاستنباط؛ لأن الفرد لن يحفظ معارف الدنيا وإن عمر مئات من السنين ، وكانت له كحافظة الإمام البخاري رحمه الله تعالى.. وكانت هذه الظاهرة أيضا منبثقة من تغير الظروف؛ فلئن اندفع الناس إلى حفظ المتون؛ لصعوبة وسائل الكتابة، وانتشار الأمية، وتناقل المعارف مشافهة: فلا داعي له اليوم؛ لأن العلم جمعته بطون الكتب؛ فالرجوع إليها أيسر وأسرع من تكلف الحفظ ثم الرجوع إلى الذاكرة، ومن ناحية ثانية فالرجوع إلى الذاكرة أحيانا يغر، ومن ناحية ثالثة فالذاكرة لا تشفي؛ لأنها لن تستوعب كل ما خط وكتب؛ ولهذا لم يكن من منهج التأليف أن تكتب المعارف نظما كما نظم النحو والفقه والفرائض والبلاغة والمنطق.. إلخ؛ وإنما تنظم على سعة من العلم في المسألة التي نظمت مسائلها إحياء لطريقة الغابرين من علمائنا بشرط أن يكون النظم جماليا، وليس على زحافات الرجز النثرية كدالية الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في أصول الفقه، وجاريته بقصيدتي الأصولية على قافية اللام بوصل الهاء، وبقصيدتي المنوعة القوافي المعنون لها بـ(لمعجزة المنجزة) مع شرحي لها، وإلى لقاء مع بقية هذا البث في السبتية القادمة إن شاء الله تعالى, والله المستعان.