الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
يُبتلى المسلم في حياته لحكمةٍ لا يعلمها البشر، بل يعلمها ربّ البشر -سبحانه وتعالى-، وجعل الله تعالى حياة الإِنسان في الدنيا تتقلّب بين السعادة والشقاء، والعسر واليسر، والغنى والفقر، والصحة والمرض. وهي دار تعب وعناء، وعمل وبلاء، كثيرة التبدّل وسريعة التحوّل.
والابتلاء أمر حتمي في حياة المسلم ليميّز الله الخبيث من الطيّب، تلك سنّة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً. والله سبحانه وتعالى خلق الحياة وجعلها داراً للابتلاءات والمحن، والمؤمن الحق في مسيرتها إِنسان لا ينظر إلى بدايات البلاء وقشوره، إنما يثق في خالقه فتراه ينتظر الفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، والفسحة بعد الضيق.
عدد من أصحاب الفضيلة المشايخ تحدّثوا عن الصبر على الابتلاء الذي لا يقدر عليه أي إِنسان.. وكانت تلك رؤاهم العلمية.
الصبر والاحتساب
بدايةً يبيّن فضيلة الشيخ د. أسامة بن عبد الله خياط إمام وخطيب المسجد الحرام أنّ البلاء يتنوّع وتتشكل المحن وتتلون الأرزاء، فمن الناس من يُبتلى بفقد الأحبة الذين يكونون له - بعد الله - عُدةً وأعواناً على الشدة من الإخوان والأقربين، والأبناء والأصدقاء المقربين، ومن الناس من يبتلى بالفقر بعد الغنى، وبالعسر بعد اليسار، وبضنك العيش وقلة الحيلة بعد ناعم الحياة وخفض العيش وبسطة الرزق وسعة التدبير، ومن الناس من يبتلى بكساد تجارته، أو فساد عشيرته، أو خراب بيته، أو تنكّر أهله، ومن الناس من يبتلى بالأمراض التي تنغِّص عليه عيشه، وتكدِّر عليه صفو حياته، وتقعد به عن بلوغ كثير من آماله، ومنهم من يبتلى بنقيض ذلك من بسطة في المال، وحُظوة في الجاه، ورفعة القدر وسعة النفوذ، والإمداد بمتع الحياة ولذائذها، والتمكن من بلوغ أقصى الغايات فيها كما قال - سبحانه - : {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}؛ أي اختباراً وإمهالاً قد يكون استدراجا، إن كان من يبتلى بذلك ممن يستعين بنعم الله على معصيته فيترك أمره، ويرتكب نواهيه كما قال سبحانه: {َلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ}.
وخير ما يفعل المسلم الصادق أمام كل ابتلاء الوقوف موقف الصبر والاحتساب بما قضى الله -تعالى- فإنَّ الصبر كما قال بعض العلماء ملاك الإيمان، وزينة الإِنسان، وطريقه إلى المعالي والمكرمات، إليه يسكن وبه يطمئن، وفي ساحته يستقر ويستريح، وهو مقام عظيم من مقامات الدين، ومنزل كريم من منازل السالكين، وهو في الإسلام له خطره وعِظَمُ شأنه أشاد القرآن بذكره، ورتب عليه الثواب الجزيل وضاعف لأهله الحسنات ليحببه إلى القلوب، ويرغب فيه النفوس؛ فما من فضيلة إلا وهو دعامتها، فإنَّ كان صبراً على الشهوات سمي عفة، وإن كان على احتمال مكروه كان رضاً وتسليماً، وإن كان على النعمة وشكرها كان ضبطاً للنفس وحكمة، وإن كان في قتال سمي شجاعة وقوة، وإن كان بين يدي حماقة وسفه سمي حلماً، وإن كان بكتمان سر سمي صاحبه كتوماً أمينا، وإن كان عن فضول العيش أو الحديث سمي زهداً، فالمرء بدونه في الحياة عاجز ضعيف لا طاقة له بما قد يثقله، ولا حول له ولا قوة بين يدي أمر يشق عليه».
ففي الوقوف أمام الابتلاء موقفَ الصبر خيرٌ عظيم اختُصَّ به المؤمنُ دون غيره كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- قال: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن.. إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له».
الثقة في الله
ويضيف د. أسامة خياط أنّ المعين الباعث على هذا التصبر كما قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: «ملاحظة حسن الجزاء فإنه على حسب ملاحظته والوقوف به ومطالعته يخفُ حمل البلاء لشهود العوض، وهذا كما يخف على كل من يتحمل مشقة عظيمة حملها لما يلاحظ من لذة عاقبتها وظفره بها، ولولا ذلك لتعطلت مصالح الدنيا والآخرة، وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة لثمرة مؤجلة فالنفس موكلة بحب العاجل».
والقصد أن ملاحظة حسن العاقبة تعين على الصبر فيما تتحمله باختيارك وغير اختيارك، قال: وتهوين البلية لأمرين، الأول: أن يعد نعم الله عليه وأياديه عنده، فإذا عجز عن عدها وآيس من حصرها هان عليه ما هو فيه من البلاء، ورآه بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه كقطرة من بحر، الثاني: أن يذكر سوالف النعم التي أنعم الله بها عليه، فهذا يتعلق بالماضي وتعداد أيادي المنن يتعلق بالحال».
وإن مما يعزي النفوس عند نزول الشدائد، ويصرف عنها موجة الألم لفواجعها ونكباتها الأملَ في فرج الله القريب، والثقة في رحمته وعدله إِذْ هو - سبحانه - أرحم الراحمين، ومن رحمته لعباده أنه لا يتابع عليهم الشدائدَ، ولا يكرههم بكثرة النوائب، بل يعقب الشدة بالسعة والرخاء، والابتلاء بالرحمة وسابغ النعماء، كما قال -عز وجل-: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}، فقد تكرر اليسر بعد العسر مرتين، ولن يغلب عسرٌ يسرين، وحيثما وجد العسر على تنوع ألوانه واختلاف دروبه، وجد إلى جانبه يسرٌ ينفث الكربة ويجبر القلب، ويواسي الجراح وينسي الآلام، ويذهب الأحزان خاصة حين يلجأ المؤمن في شدته وبلائه إلى ربه، ويسأله أن يبدله من بعد شدته رخاءً، ومن مجالب أحزانه وبواعث همَّه فرجاً ويسراً.
حال الصابرين
ويقول فضيلة د. عبد الله بن محمد الطيار عضو الإفتاء في القصيم لقد أمرنا الله تعالى بالصبر، وجعله من أسباب نيل عونه ومعيته، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أمنوا استعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153). وأكَّد أنّ هذه الحياة محل ابتلاء، {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ..}، وأخبر عن حال الصابرين عند المصائب، فقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذا أصابتهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ}، وبشرهم بجزائهم عنده، فقال: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 155-157). فالصبر سبب عظيم لبقاء العزيمة عند العبد المؤمن، وسبب دوام بذله وعمله، وبه تُعالج مغاليق الأمور، وأفضل العُدَّة الصبر على الشدَّة.
وإن من الأمور التي ينبغي علينا أن نسلكها إذا أصيب أحدنا ببلاء وأن نطبقها في حياتنا ما يلي:
1- علينا أنْ نتذكّر دومًا وأبدًا قرب زوال الدنيا وسرعة فنائها، وأنه ليس لمخلوق فيها بقاء، وأنّ لها آجالاً منصرمة ومُددًا منقضية، وقد مثَّل الرسول -صلى الله عليه وسلَّم- حالَه في الدنيا كراكب سار في يوم صائف، فاستظلَّ تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها، فتهون علينا المصائب والمحن.
2- وعلينا أن نؤمن بقضاء الله وقدره، ونعلم أنّ القدر لا يُردّ ولا يؤجَّل، ونرضى بما يقدره لنا خالقنا، ونسلم أمرنا لمولانا، ونقوي يقيننا عندما نسمع كلام نبينا -صلى الله عليه وسلَّم-: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجفت الصحف) (رواه الترمذي).
3- وعلينا أن نتذكر حال رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- ففيه عظة وسلوى وعزاء، فقد كانت حياته -صلى الله عليه وسلَّم- كلُّها صبرًا وجهادًا، ففي فترة وجيزة مات عمه أبو طالب الذي كان يمنع المشركين من أذاه، وماتت زوجته الوفيّة الصابرة خديجة، ثمّ ماتت بعض بناته، ثم مات ابنه إبراهيم، فلم يزد على أنْ قال وقد دمعت عيناه: (إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يَرْضَى ربُّنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) (رواه البخاري). ومات الكثير من أصحابه الذين أحبَّهم وأحبّوه، فما فَتَّ ذلك في عضُدِه، ولا قلَّل من عزيمته وصبره.
4- وعلينا أن نُحْسِن ظنَّنا بربنا، كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم- عن رب العزة تبارك وتعالى أنه قال: (أنا عند ظن عبدي بي). فنثق بسعة رحمة الله، وأنّ أقداره الواقعة علينا كلها خير في حقيقة أمرها وإنْ كانت في ظاهرها مصائبَ مكروهةً وموجعةً، مصداقاً لقول الله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
5- وعلينا أن نتأسى بغيرنا من أهل المصائب، ونتذكَّر ما هم فيه من البلاء، وننظر إلى من هو أشدّ منا مصيبة، فإنَّ ذلك يُذهب الأسى ويخفف الألم، ونتذكَّر قول الرسول - صلى الله عليه وسلَّم - (ومَن يتصبَّرْ يُصَبِّرْهُ الله).
6- وعلينا أن نتذكّر أنّ الابتلاءات والمحن والمصائب من دلائل الفضل، لقول النبي -صلى الله عليه وسلَّم- عندما سئل عن أشد الناس بلاءً؟ قال: (الأنبياءُ، ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإنَّ كان دينه صلْبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة) (رواه الترمذي).
ثمرة الصبر
ويعدّد الدكتور محمد بن إبراهيم الرومي أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة الملك سعود بالرياض الثمار التي يجنيها المؤمن من صبره على الابتلاء ولها صورة أنواع مختلفة نوعية الابتلاء ومقدار الصبر عليه، وحسب قوة إيمان الشخص وثباته.
عن أنس بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلَّم- أنه قال: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله -عز وجل- إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.
فثمرة الصبر على البلاء والابتلاء عديدة فهي على وجه الإجمال كالآتي:
1- في مرحلة الابتلاء والصبر عليه يزداد المؤمن تعلقاً بربه وبعبادته فيكون حريصاً على أدائها أكثر فأكثر ويكثر من النوافل وتلاوة القرآن، ويتوجه إلى الله قلباً وروحاً والانقطاع عن كل ما يشغله من الاتصال الروحي، فيجد فرصاً كثيرة في هذه الظروف يخلو فيها بينه وبين خالقه، ورازقه الصحة والعافية.
2- تكفير السيئات والحط من الذنوب: وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلَّم-: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه، وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة». حديث حسن صحيح.
3- الإخلاص: إن الابتلاء والمحن التي يواجهها المسلم في صراعه مع أولياء الشيطان، وصبره على ذلك من شأنها أن تنقي نفسه من الشوائب، شوائب الشرك والرياء، وتنقي قلبه من علائق الهوى.
4- زيادة الثقة بنصر الله تعالى، فالإِنسان في الظروف الحرجة لا يبقى أمامه في التخفيف عما هو عليه من البلاء إلا خالقه سبحانه فهو وحده الذي يلهمه الصبر ويرزقه الثبات، فيتجه بكليته إلى ربه يسأله الثبات على الطريق المستقيم، ومؤازرته عند الضيق.
5- من تلك الثمرات أن يدرك المبتلي الصابر منزلته عند الله وقوة دينه ومقدار صبره على البلاء فإذا فقد الصبر على البلاء أدرك أن منزلته عند الله ضعيفة وبالتالي يفقد ثمرات الصبر الكثيرة.
6- من تلك الثمرات دخول الجنة: لا شك أن الصبر على الابتلاء وسيلة من وسائل دخول الجنة، فمن نعم الله على عبده أن يبتليه ثم يرزقه الصبر عليه ويكافئه بالجنة، يقول تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.