د.خالد بن صالح المنيف
هام بها حبا ونبض قلبه لها، ملكته روحا وشغفته عشقا, وكأن الله لم يخلق سواها من النساء , تربعت على عرش قلبه فتقدم لها؛ فكانت لحظة الموافقة أسعد لحظات حياته فقد كان مستعدا لدفع مهجة روحه مهرا لها!
فماذا حدث بعد الزواج؟ بعد الاقتراب والالتصاق التام وبعد أن طال عليه العهد وألف الوضع؛ زهد في من ملكت روحه وقلبه قديما!
نعم أن كثرة المساس تفقد الإحساس وكثرة الاقتراب تزهد في الشيء!
يقول الأديب الجميل عبدالوهاب مطاوع: آفة البشر أنهم يفقدون تدريجياً الإحساس بقيمة الأشياء إن هم اعتادوا رؤيتها كل يوم والرؤية تكون أوضح وأجمل دائماً عن بعد، أما الاقتراب فيطمس أحياناً بعض معالم الصورة التي لا ترى بوضوح إلا من مسافة معقولة، تماماً كما نفعل حين نشاهد لوحة جميلة معلقة على الحائط، فنرجع إلى الخلف بضع خطوات لنستوعب تفاصيلها وصورتها الشاملة.»
وقال أحد المشاكسين جُن قيس ليلى من الصبابة والبعد والحرمان ولو اقترب من ليلى لجن منها!
ما أروع السياسة التي اتخذها ذلك القنفذان اللذان التقيا في ليلة شاتية مطيرة فأراد أن ينالا الدفء والحنان اقتربا كثيرا من بعضهما لحد الالتصاق فانغرز الشوك في جسدهما فعانيا من الألم فقررا أن يبتعدا قليلا، لشيء من الدف وقليل من الوجع!
قديما قالوا: «أزهدُ الناس بالعالم أهله! وكنت أستغربُ من هذه العبارةِ حين سماعها.. حتى علمتني الأيامُ معناها فعرفتها جيدا.
ومن هذا حدث به أحدهم قائلا: قابلت الكاتب المشهور فلانا فما رأيته كما ظننت!
قلت له: إن ذاك الأديب أو الكاتب حينَ تعرفُه بواسطةِ فكره فإنك لا تتخيلُه بشرا! فربما ظننته مُجرَّداً عن التراب والجسد؛ فتتخيله مَلَكاً منزها أو طائرا رقيقا مغردا أو ورد غضة عطرة!
فما تقترب منه وتخالطه قليلا حتى تتلاشى تلك الصورة الخيالية التي رسمتها أنت له!
والإشكالية هنا أنك من تسبب في هذا ! فأنت من تكلف في رسم الصورة وأنت من بالغ في رفع الشأن وكأن جريرة هذا العالم أو الكاتب هي السماح لك بالاقتراب!
لذا أنصح عموما باستخدام (دبلوماسية الغياب) وذلك بعدم الاقتراب الشديد من الناس وعدم المبالغة في مخالطتهم والرسمية بتواضع في التعامل معهم !
يقول صاحب كتاب سلطان القوة : إن التداول الفائض عن الحاجة لأية بضاعة يجعل ثمنها ينحدر هبوطا وكذلك أنت !
وكان القائد العبقري نابليون يدرك معنى (دبلوماسية الغياب) حين قال: إذا كانت الناس تشاهدني كثيرا على المسرح فإنهم سيكفون عن ملاحظتي ثم لا يدركون قيمة وجودي !
و(دبلوماسية الغياب) لها علاقة وثيقة بقانون اقتصادي مهم وهو قانون الندرة فإذا ما سُحبت بضاعة من سوق ما وأفرغتها منها فإنك ترفع قيمتها وتزيد ثمنها؛ ففي القرن السابع عشر قررت العائلة المالكة في هولندا أن تجعل من زهرة الخزامى أكثر من كونها وردة حيث قررت أن وردة الخزامى رمزا للدلالة على المنزلة الاجتماعية, ولهذه الغاية قرروا أن يجعلوا منها وردة نادرة الوجود في الأسواق حتى أن الحصول عليها يكاد يكون مستحيلا ,وأطلقوا حينها شرارة ما سمي بجنون الخزامى حيث كان الحصول على وردة خزامى واحدة يحتاج لوزنها ذهبا!
النفس مجبولةٌ على تقدير وتكبير وتهيب البعيد نبني للبعيد قصورا شاهقة من قصب لا نصب فيها ولا تعب، وبعد القرب مقاربته تبدأ النفس تشعر بالإِلْف وتعُد شغفها وإعجابها به كان هوساً لا مبرر له ! فكيف ولو أضيف لذنب القرب خطأ وزلة لا يحترز بشر منها - فإن معاول الهدم وقنابل النسف ستعمل بسرعة فائقة ومعها سننسى سجله الأبيض وسنجرده من كل جميل سلبُ منه كل جميل ، ونلغي من تاريخه كل حسن.هذا حالنا كبشر لذا فنحن نحتاج كثيرا لدبلوماسية الغياب وعلنا نسلم!
ومضة قلم
لكي تكون كبيرًا يجب أن يكون تفكيرك كبيرًا.