أ.د.سليمان بن عبد الله أبا الخيل
وفي رواية للترمذي: قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»، فبين أن عامة المختلفين هالكون إلا أهل السنة والجماعة، وأن الاختلاف واقع لا محالة.
وروى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشيطان ذئب الإنسان، كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة، والعامة، والمسجد».
وفي صحيح البخاري برقم (4628) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } [الأنعام: 65]، قال: «أعوذ بوجهك»، {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: «أعوذ بوجهك»، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}، قال: «هاتان أهون».
قال الطحاوي: فدلَّ على أنه لا بد أن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم بأس بعض، مع براءة الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الحال، وهم فيها في جاهلية، ولهذا قال الزهري: «وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا على أن كل دم، أو مال، أو فرج، أصيب بتأويل القرآن، فهو هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية».
وقد روى مالك بإسناده الثابت، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: «ترك الناس العمل بهذه الآية، يعني قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، فإن المسلمين لما اقتتلوا كان الواجب الإصلاح بينهم كما أمر الله تعالى، فلما لم يعمل بذلك، صارت فتنة وجاهلية».
وهكذا مسائل النزاع التي تتنازع فيها الأمة في الأصول والفروع إذا لم ترد إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم، فإن رحمهم الله، أقر بعضهم بعضاً، ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد، فيقر بعضهم بعضاً، ولا يعتدي، ولا يُعتَدى عليه، وإن لم يرحموا؛ وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض، إمّا بالقول مثل تكفيره وتفسيقه، وإمّا بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله، والذين امتحنوا الناس بخلق القرآن كانوا من هؤلاء، ابتدعوا بدعة، وكفروا من خالفهم فيها، واستحلوا منع حقه وعقوبته.
فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم إما عادلون وإما ظالمون.
وأمَّا أهل البدعة، فالأمر فيهم ظاهر، ومن جعل الله له هداية ونوراً رأى من هذا ما يبين له منفعة ما جاء في الكتاب والسنَّة من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب صحيحة تنكر هذا، لكن نور على نور.
والاختلاف الأول الذي هو اختلاف التنوع: الذم فيه واقع على من بغى على الآخر فيه، وقد دلّ القرآن على حمد كل واحدة من الطائفتين في مثل ذلك، إذا لم يحصل بغي، كما في قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5]. وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار، فقطع قوم، وترك آخرون.
والاختلاف الثاني: هو ما حمد فيه إحدى الطائفتين، وذمت الأخرى، كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة: 253].
وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة، من القسم الأول، وكذلك إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال، والعداوة والبغضاء؛ لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل، والأخرى كذلك... إلى آخر كلامه رحمه الله في شرح العقيدة الطحاوية (2/ 778 - 786).
8- العدل:
الإسلام شريعة الله سبحانه، وحكمه بين عباده، أنزله الله ورضيه لعباده فلا يسخطه أبداً، وأتمه فلا ينقصه أبداً قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وإذا كانت الشريعة صادرة منه فهي لا شك قائمة على العدل مبنية عليه، تتمثل العدل في جميع الأحكام والأخلاق والآداب التي جاءت بها؛ لأن الله سبحانه عدل قائم بالقسط، قال ابن تيمية في كتابه تفسير آيات أشكلت (1/ 444): «اتفق المسلمون وسائر أهل الملل على أن الله عدل قائم بالقسط، لا يظلم شيئاً شيء، بل هو منزه عن الظلم». إلى أن قال في (1/447): «والعدل وضع كل شيء في موضعه، فهو سبحانه حَكَم عدل، لا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، لا يضع شيئاً في غير موضعه، بل إنما يضعه في موضع يناسبه، وتقتضيه الحكمة والعدل، فلا يفرق بين متماثلين، ولا يسوي بين مختلفين، ولا يعاقب إلا من يستحق العقوبة، فيضعها موضعها، لما في ذلك من الحكمة والعدل، وأما أهل البر والتقوى فلا يعاقبهم البتة، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36]، وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]».
ولذا فإنه سبحانه أمر بالعدل والقسط في آيات متنوعة متعددة.
وإذا اعتبرت تفاصيل العدل في الأحكام الشرعية المتعلقة بالعقود والمعاملات من معاوضات وشركات، وحقوق المواريث الزوجية والأقارب والعاملين وجدتها في غاية العدل والانتظام المُصْلِح للأحوال الجالب للمنافع، الدافع للمضار والمفاسد.
بل لقد أمر الله بالعدل حتى مع أعداء المسلمين فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].
9- رعاية المصالح والأمر بالإصلاح والنهي عن الفساد والإفساد:
المستقرئ للشريعة في مصادرها ومواردها الدالة على مقاصدها يتبين له بجلاء أن الشريعة مبناها على رعاية المصالح، وحفظ نظام الأمة، واستدامة صلاحه لصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان، ويشمل صلاحه صلاح عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه، قال الله سبحانه عن شعيب عليه السلام: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]، فدل على أن الله أمره بإرادة الإصلاح بمنتهى الاستطاعة.
والأمر بالصلاح والنهي عن الفساد ورد كثيراً في القرآن والسنة.
10- الدعوة إلى كل خير والنهي عن كل شر:
إن تضمن الدين الإسلامي لكل خير وصلاح، واشتماله على المحاسن التي لا يتضمنها أي دين محرَّف أو أي مبدأ ونظام منحرف من أكبر الوسائل الداعية إلى الدخول فيه عن تبصر وقناعة، وذلك بالبراهين العقلية والفطرية، والآيات الأفقية والنفسية قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
وقد ذكر جمع من المفسرين أن الضمير في قوله: «إنه الحق» راجع إلى القرآن.
وقيل: إلى الإسلام الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: إلى ما يريهم الله ويفعل من ذلك، وقيل: غير ذلك، والأقرب أنه راجع إلى القرآن، والقرآن هو أساس هذا الدين، وهو المبين لما اشتمل عليه من المصالح.
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: (ولا سبيل للبشر إلى الإصلاح والخير والسعادة إلا بهذا الدين فإنه ما من مصلحة دقيقة ولا جليلة إلا أرشد إليها هذا الدين، ولا خير إلا دل عليه، ولا شر إلا حذر منه... فشرح الدين على هذه الطريقة شرحاً وافياً، وتطبيق تعاليمه وهدايته على أحوال البشر، وبيان أنها صالحة لكل زمان ومكان وأمة، وأن الانحراف والشر والضرر إنما يكون بفقد روح الدين أو نقصها، وكذلك شرح أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم ونعوته وأخلاقه التي من تدبرها وعرفها وفهمها حق الفهم علم أنه صلى الله عليه وسلم أعلى الخلق في كل صفة كمال، وأن كل صفة كمال له منها أعلاها وأكملها، وأن الكمالات الموجودة في الرسل عليهم الصلاة والسلام قد جمعت فيه على الوجه الذي لا يماثله فيه أحد).
11- الحكمة والبصيرة:
الله سبحانه حكيم لا يفعل شيئاً عبثاً، ولا لغير معنى ومصلحة، بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على هذا وهذا في مواضع لا تكاد تحصى.
والإحكام: الإتقان، ووضع الشيء في موضعه، فالله عز وجل وحده هو الحاكم، وحكم الله إما كوني وإما شرعي.
فحكم الله الشرعي: ما جاءت به رسله، ونزلت به كتبه من شرائع الدين.
وحكم الله الكوني: ما قضاه على عباده من الخلق والرزق، والحياة والموت ونحو ذلك من معاني ربوبيته ومقتضياتها، والله عز وجل حكيم بالحكم الكوني، وبالحكم الشرعي.
فكلا الحكمين موافق للحكمة، لكن من الحكمة ما نعلمه، ومن الحكمة ما لا نعلمه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
والحكمة كما تكون في الشرع والقدر من أفعال الله تعالى فهي مطلوبة في أفعال الإنسان وتصرفاته.
والحكمة كذلك مطلوبة في الدعوة إلى هذا الدين، وتوضيحه وإبراز محاسنه للناس، فالمسلم هو أولى الناس بالحكمة والعمل بها، وطلبها، وهذا من الاعتدال والوسطية المطلوبة التي أمر بها الإسلام وحثَّ عليها ورغب فيها.
12- العلم والرفق واللين في الأمر والنهي:
إن الشريعة الإسلامية أوجبت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبينت فضله ومنزلته من الدين، وامتدحت القائمين به، يقول الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، ويقول: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
ولهذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبدأ شرعي مهم وحساس ودقيق، له شروطه وحدوده وضوابطه وآدابه، لا يمكن أن تتوافر في كل أحد، ومن هنا ليس لكل أحد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في كل حالة إلا في حالة الإنكار القلبي؛ فإنه يتعين على كل مسلم كما قال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، أخرجه مسلم في صحيحه رقم (49)، وفي رواية أخرى رقم (50): «وليس وراء ذلك حبة خردل من إيمان».
إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لابد أن يكون عالماً بما يأمر به وينهى عنه، حكيماً حليماً، رفيقاً، ذا أناة وصبر وأخلاق حسنة، وآداب عالية وفاضلة، مقدراً المصالح مدركاً لها، عارفاً المفاسد مراعياً لها، متبيناً في أقواله وأفعاله، صغيرها وكبيرها، مراعياً الأزمنة والأمكنة والأحوال، والنيات والعوائد، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (28/ 136، 137): (على الآمر والناهي أن يكون عالماً رفيقاً، صابراً، فالعلم قبله، والرفق معه، والصبر بعده).
وبهذه الثوابت والأصول القوية يكون أمر الإنسان ونهيه نافعاً ومؤثراً، يحقق المصالح ويدرأ المفاسد، ويؤتي الثمار الإيجابية والمطلوبة التي تتمثل في المحبة والإخاء والائتلاف والتعاون على البر والتقوى، ونبذ الفرقة والخلاف والاختلاف، والبغضاء، والقيل والقال، والغيبة والنميمة، والتشهير والتنفير، ويسلك فيها مسلك الاعتدال والوسطية التي جاءت بها الشريعة السمحة.
وقد تعرض ابن القيم رحمه الله إلى فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيفيته، ودرجاته، وساق الأمثلة على ذلك، فقال في إعلام الموقعين (3/ 4، 5): إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما أقاموا الصلاة»، وقال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يداً من طاعته». ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه، خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وُجد سواء. فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة. فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشاب، وسباق الخيل، ونحو ذلك.
وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب، أو سماع مكاء وتصدية، فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيراً من أن تفرغهم لما لهو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلاً لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلاً بكتب المجون ونحوها، وخفت من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسحر، فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع، وسمعت شيخ الإسلام قدس الله روحه ونور ضريحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تبعد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم اهـ.
فالعلم والرفق واللين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سمات الاعتدال والوسطية التي جاء بها الإسلام.
وما تقدم ذكره يُعد من أهم مظاهر وسمات الاعتدال والوسطية، وإلا هي أكثر من ذلك، ومن أرادها فليراجعها في مظانها المتعددة، وقد كان لنا إسهامات متنوعة ومتعددة في كل ما يتعلق بإثراء منهج الوسطية والاعتدال، والدعوة إليهما، وتحقيقهما، وطريقة تطبيقهما على أرض الواقع، عبر مجالات متنوعة، منها تأليف الكتب، وإصدار الكتيبات، وإعداد الدراسات والأبحاث، والمشاركة فيها في العديد من المؤتمرات الداخلية والإقليمية والعربية والإسلامية والعالمية، وكذلك عبر الملتقيات، والمنتديات، وحلقات النقاش، وورش العمل، وإلقاء الدروس والمحاضرات، الموجهة للجهات المستهدفة، وخصوصاً الطلاب والطالبات، وتناول هذه الموضوعات في وسائل الإعلام المقروءة، والمرئية، والمسموعة، ووسائل التواصل الاجتماعي (الإعلام الجديد)، علماً بأن كثيراً من هذه المواد العلمية قد تُرجم إلى لغات مختلفة، كاللغة الإنجليزية، والفرنسية، والأردية، واليابانية، والكورية.
ولقد قامت المملكة العربية السعودية على الاعتدال والوسطية من حين إنشائها على يد الملك الصالح والإمام العادل الملك عبدالعزيز آل سعود طيب الله ثراه وجعل الجنة مثواه، وسار على ذلك أبناؤه البررة الميامين، والملوك المقسطين، حتى جاء عهد العزم والحزم عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز أيده الله وأعزه، ونصر به الملة الحنيفية، والشرعة المحمدية، ومن ثمرات وعلامات الاعتدال والوسطية في عهده حفظه الله تدشينه خلال الأيام الماضية المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف ( اعتدال) بمشاركة الرئيس دونالد ترمب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وقادة ورؤساء ووفود الدول المشاركة في القمة العربية الإسلامية الأمريكية، في الرياض.
وأولى من يقوم بهذا المركز، ويوجهه باعتدال ووسطية ومنهجية فذة، وعدل واقتدار هي المملكة العربية السعودية؛ وذلك لما تملكه من مقومات شرعية، وأهلية علمية، ومقدرات وطنية، ومكتسبات حيوية، وعقول راجحة، وقيادة حكيمة، ذات تجربة وحنكة، ومعرفة ودراية بالسياسة والأمور.
ويأتي إنشاء هذا المركز ثمرة للتعاون الدولي في مواجهة الفكر المتطرف المؤدي للإرهاب، العدو المشترك للعالم، الذي عانى منه العالم بجميع أنواعه وأطيافه وأجناسه وأشكاله، وخاصة العالم الإسلامي، والعربي بوجه الخصوص، ولم تكن المملكة العربية السعودية بمنأى عن هذا الإرهاب الذي تسلط عليها من الداخل والخارج، فقد عانت منه، ووقفت في وجهه، وقفة شرف وعز، ومن ذلك إنشاء هذا المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرف، والتي قامت على تأسيسه عدد من الدول، واختارت الرياض مقراً له ليكون مرجعاً رئيساً في مكافحة الفكر المتطرف، من خلال رصده وتحليله؛ للتصدي له ومواجهته والوقاية منه، والتعاون مع الحكومات والمنظمات لنشر وتعزيز ثقافة الاعتدال. وتأتي أهمية إنشاء المركز من أنها المرة الأولى التي تجتمع دول العالم صفاً واحداً وبشكل جاد لمواجهة خطر التطرف، لما يشكله من تهديد للمجتمعات وتعريضها للخطر، وبالتالي فإنه من واجبنا أن نحارب معاً في سبيل أن ننتصر ونحمي الناس من خطرها. وقد جاء هذا المركز العالمي مواكباً للنهضة والتقنية الحديثة، وما يضمه من إمكانيات تقنية، وبشرية، وما يحتوي على المعلومات الفكرية والرقمية والإعلامية، ومهامه في رصد وتحليل نشاطات الفكر المتطرف.
وهذا المركز يبشر بخير، وبمستقبل واعد، ووأد للإرهاب بإذن الله، وما ذلك إلا بجهود مباركة، وسعي حثيث من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز، وسمو ولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، فهي مبادرة كريمة، وعمل كبير، وسباق مع الزمن، واستباق للأحداث، وجهود مضنية، وشموع مضيئة، تذكر فتشكر.
وفي الختام أسأل الله العلي القدير أن يجزي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز خيرًا على جهوده العظيمة، ومبادراته الحثيثة، وإرادته الخير وبثه ونشره، ومحاربته للإرهاب والفكر المتطرف، والغلو والفساد، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، والفقه في الدين، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظ علينا ديننا ووطننا وأمننا وولاة أمرنا، وأن يوفق ويسدد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز، وسمو ولي ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ويعزهم ويمكنهم ويرفع من شأنهم، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق، وأن يحفظ بلادنا من كل سوء ومكروه، وأن يجعلها شامخة عزيزة، مهابة الجانب والمقام، لا ينالها أحد بسوء، وأن ينزل بأسه وعقابه وأليم عذابه من قصدها بشر أو فتنة أو تخريب أو فساد وإفساد، وأن ينصر جنودنا المرابطين في الحدود والثغور ورجال أمننا في وسط البلاد على عدوه وعدونا وعدوهم، وأن يربط على جأشهم ويقوي عزائمهم ويثبت قلوبهم ويسدد سهامهم ورميهم، وأن يحفظنا جميعًا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ به أن نغتال من تحتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..