د. حمزة السالم
في جميع الأمم قديمها وحديثها - أكانت ديمقراطية أم لم تكن - يكون تجديد نظام عتيق قد تعارف الناس على هجرانه، أو إصلاح أمر قائم اتفق العقلاء على حتمية إصلاحه، أمراً في غاية الصعوبة نظراً لمقاومة الشارع لهذا الإصلاح والتجديد. ففي النظم الديمقراطية يتحجج ممثلو الشعب بأنّ رفض التجديد أو التغيير هي مطالب من يمثلونهم، وفي المجتمعات غير الديمقراطية يتعذر مسؤولوها بأن الوضع القائم هو رغبة مجتمعاتهم.
والمتأمل في نقاشات الشارع يجدها لا تتجاوز أن تكون صدى يكرر الطرح نفسه الذي يطرحه البارزون إعلامياً - مسئولين كانوا أو من غيرهم -، والذين هم غالباً ما يمثلون شخصيات قيادية هي التي تدير الوضع القائم وترفض إصلاحه.
والإنسان يميل عادة إلى قبول رأي من اعتاد عليه ممثلاً وقائماً بهذا الموضوع بغضّ النظر عن فهم معطيات رأيه وصحة حجته. ومن هنا تأتي مشكلة الإصلاح والتجديد في المجتمعات والأنظمة: فهي بيروقراطية ولكنها ليست حكومية ولكنها إنسانية اجتماعية. فهذه الشخصيات المشهورة إعلامياً لها تأثير قوي على فكر المجتمع في قبول الوضع القائم لا في فهمه. وهذه الشخصيات تمثل أصالة عن نفسها أو غيرها بالشريحة التي ترفض الإصلاح والتجديد - خصوصاً إذا جاء من خارج محيطها - لأسباب عدة.
فمنها، أن هذه الشريحة لا تريد أن تظهر بمظهر المُلام في الوضع القائم الذي وجب إصلاحه. كما أن قادة هذه الشريحة تكون عادة قد قضت حياتها في هذا الموضوع بهذه الطريقة وبهذا التفكير، فلا تستطيع أن تفهم أو تتصور كيف يمكن إدخال الإصلاح والتجديد عليه. كما أنه قد يكون مصالح سياسية أو تجارية تجعل هذه الشريحة تقاوم الإصلاح والتجديد.
وهنا تأتي محاولة الإجابة عن السؤال «أيهما أنسب بيئة للإصلاح... الديمقراطية أم غيرها»؟ هذا سؤال صعب والإجابة عليه منضبطة تماماً. فهذا الغرب قد قطع شوطاً واسعاً في الإصلاحات ولكنها تسير ببطء، كوضع السود مثلاً ووضع الصحة والتعليم المتعثر في أمريكا اليوم. وهذا الرئيس التركي يعجز عن تقديم أي إصلاح ديني في تركيا. بينما رأينا إصلاحات عظيمة سريعة في بعض المجتمعات غير الديمقراطية، كما حصل في الدولة السعودية على يد المؤسِّس الأول الملك عبد العزيز - رحمه الله -، وكحال دبي مثلاً.
ولكن هناك عائق عظيم للإصلاحات في المجتمعات غير الديمقراطية لا يوجد في المجتمعات الديمقراطية. فالمجتمعات الديمقراطية يغلب عليها أن تكون مجتمعات قوية لا تلجأ إلى التخوين والطعن في وطنية المصلحين والمجددين. بينما في المجتمعات غير الديمقراطية، ترى أنّ أول سلاح يستخدمه المقاوم للإصلاح والتجديد هو تخوين من يدعو للإصلاح واتهام وطنيته. وهذا سلاح فعّال وقوي. فتهمة خيانة الأوطان والمعتقدات تهمة عظيمة تقعد بهمة الهميم وترضخ عزيمة القوي.
ومن الأمثلة الحقيقة الواسعة لقصة الإصلاح والتجديد، والتخوين للأوطان والمعتقدات قصة الخلافة العثمانية. فالعثمانيون تبنوا فكرة الخلافة الإسلامية، ثم مارسوا أدوات منع التفكير حولها، فأهملوا العلم وكبتوا الفكر. وكل فكرة إصلاحية لنظام الخلافة كانت تتهم بالخيانة الوطنية والعقائدية. وكانت تقاوم بحجة أن هذه هي سر قوة العثمانيين وهي التي فتحت بها قسطنطينية وسادت بها الدولة العثمانية. فضاعت دعوة الإصلاحيين - الذين لم يدعوا إلى نبذ الخلافة بل إلى تصحيح ما طرأ عليها من تجاوزات وتجديد أنظمتها بما يلائم تغيرات الزمان - ، مقابل حجج تتعلق بتاريخ مضى وواقع تغير، فلم يقدموا شيئاً من الإصلاح والتجديد لنظام الخلافة حتى جاء من أسقط الخلافة وأنهى الدولة العثمانية بسقوط الخلافة.