د. فهد صالح عبدالله السلطان
نحن أمام ثورة صناعية وتجارية شرسة. هذه الثورة تختلف جذرياً عن الثورات الصناعية والتجارية التي سبقتها كلها.. بل ربما تختلف في كنهتها وطبيعتها عن طبيعة التاريخ الصناعي والتجاري كله. هذه الثورة الشرسة لا تتعلق بتطوير آلة الإنتاج أو تخفيض تكلفته أو رفع جودته فقط كما كانت عليه الحال في مسار التاريخ البشري كله ولكنها ثورة قامت على تغيير بنيةوطبيعة العمل ذاتهاوطريقة التسويق والبيع والشراء بشكل جذري.
يبدو أن التطور السريع الذي يحدث في عالم التقنية والإدارة والاقتصاد سيغير كثيراً في معطيات العمل وبالتالي قواعد اللعبة الاقتصادية والتجارية والصناعية بشكل خطير وسيعيد ترتيب الاقتصاديات.. وذلك خلال فترة وجيزة لا تتعدى سنوات معدودة.
وحتى لا يظن القارئ الكريم أن هذا من باب التنظير فإنني أدعوه للاطلاع على بعض الأرقام والإحصائيات عن بيئة العمل العالمية. تفيد المعلومات الحديثة أن 30 % من المراكز التجارية في الولايات المتحدة ستغلق خلال السنوات القليلة القادمة. منذ أكتوبر 2016 فقد 89000 موظفاً أمريكياً في محلات التجزئة وظائفهم. جي سي بني لوحده أغلق في العام الماضي (2016) 135 فرعاً، وفقاً لنيويورك تايمز الصادرة في شهر إبريل الماضي. هذه التطورات لم تحدث بسبب الظروف الاقتصادية ولكن بسبب تغير أساليب البيع والشراء والتعامل في الفضاء الرحب. وبلغة أخرى بسبب شركات برامج التقنية المتقدمة مثل الأمازون وابل وقوقل وعلي بابا وغبرها من مواقع التجارة الإلكترونية... إلخ التي غيرت منهج التعاملات التجارية والصناعية والاجتماعية والصحية... إلخ.
في مقابلة حديثة مع الرئيس التنفيذي لديميلربينز (مرسيدس بنز) أكد أن منافسيه لم يعودوا شركات السيارات الأخرى بقدر ما هم شركات البرامج الإلكترونية مثل قوقل وابل وأمازون... إلخ.. مؤكداً أن برامج التقنية الحديثة سوف تربك الصناعات التقليدية بشكل كبير.
نسبة كبيرة من الأعمال القائمة حالياً ستختفي خلال العشر سنوات القادمة قد تصل إلى 70 % مما هو موجود حالياً من الوظائف حسب توقعات الخبراء.. وفي المقابل هناك أعمال كثيرة قد تصل إلى 30 % مما هو موجود حالياً سوف تولد وتظهر في المستقبل القريب جداَ.. إنه الذكاء الاصطناعي الذي سيلغي وظائف وأعمالاً عديدة تعتبر مصدر رزق للقائمين بها حالياً، ويقلل من أهمية الأخرى بما فيها الأعمال المتعلقة بالصحة والتي تعتبر في وقتنا الحاضر أكثر الأعمال توفيراً لفرص العمل.. ستتضاءل أهمية العقارات المعدة للتجارة والعرض بسبب رحابة الفضاء. سنتخاطب ونتحاور ونبيع ونشتري في الفضاء الرحب (من خلال النت) رغم أننا نقيم على الأرض.. لن يعد المنتجون والبائعون بحاجة إلى القرب من المستهلك والمنافسة على العقارات في شارع الحي.. وإنما سينتجون ويبيعون ويشترون عن بعد. لن يعد للجغرافيا دور كبير في التجارة. قلت الحاجة إلى الحركة الحسية للحصول على المعلومة أو لأداء بعض الأعمال. ربما تتغير أهمية العملات القائمة حالياً ويظهر في الأفق عملات إلكترونية جدية تقوم على انقاض العملات العالمية الرسمية.
البرامج التقنية والإلكترونية ستحد من قيمة كثير من الأعمال التي نمارسها ونكسب عيشنا من خلالها حاليا. وسيؤدي ذلك إلى أن يخسر الكثير منا أعمالهم الحالية. إنه الذكاء الصناعي، مفيد ولكنه خطير في ذات الوقت.
وفي المقابل ستتوفر أعمال جديدة وسيدخل إلى سوق العمل فرص عملية عديدة، ولكن ستحظى وتفوز بها المجتمعات المتحضرة التي تستشرف المستقبل وتقرأه جيداً وتعد له العدة.
سيزداد الاعتماد في ممارسة الأعمال بشكل متسارع على الفكر على حساب العمل البدني الحسي. تغير عامل الزمن في العملية الإنتاجية وبالتالي تغيرت فاعليته وأثره في الأداء وفي اكتساب المعارف والخبرات. فما كنا نتعلمه في القرن الماضي في سنوات عدة أصبحنا نكتسبه في أيام بل قل في ساعات أو دقائق. التطورات الحالية في ميدان الأعمال والإنتاج والتسويق والبيع تجعل من الصعوبة بمكان على التجارة التقليدية التي منافسة التجارة الإلكترونية الحديثة التي تعتمد على تقليل التكاليف من جانب وسهولة الوصول للمستهلك (بصرف النظر عن موقعه الجغرافي) وتجاوز الأنظمة والقوانين والتراخيص المحلية. من جانب آخر.
هذه هي بيئة العمل الجديدة وهذا هو الاقتصاد الخلاق الذي يستوعب المبدعين وينتج الإبداع ويخلق الفرص. والذي يمثل الآن ما نسبته 6.1 % من حجم الاقتصاد العالمي الذي يبلغ حاليا 74 تريليون دولار.
تفيد المعلومات الإحصائية الأخيرة إلى أن نسبة 58 % من سكان المملكة من الشباب الذين تقل أعمارهم عن 30 سنه. هذه المعلومة ستضاعف الأثر لأن هؤلا يحملون ثقافة تجارية تختلف بشكل كبيرا عما يحمله اباؤهم. فهم (الشباب) يعتمدون في الدرجة الأولى على الشراء والبيع عن طريق النت والتعامل في الفضاء الرحب الذي لا يملكه أحد. وبالتالي فإن قطاع التجزئة التقليدي سيعاني بشكل كبير وقطاع العقار التجاري سيعاني هو الآخر.
ولأن قضية البطالة تمثل الهم الوطني الأول الذي يجب أن تدور في فلكه معظم برامج التنمية الوطنية، ولأهمية التركيز في برامج توطين القوى العاملة على الحلول العملية، فإن موضوع إيجاد فرص عمل والحد من البطالة يجب أن يستند إلى المعطيات الجديدة ومستجدات المرحلة. إذا كنا في الوقت الحاضر نعاني من مشكلة البطالة فإن التحدي في قادم الأيام سيكون أقسى وتبعاته أعتى نظراً لأنناً سنفقد كثيراً من فرص العمل بسبب التطورات التقنية المتسارعة. ولكننا يمكن أن نكسب المعركة ونحول التحدي إلى فرص إذا ما قرأنا مستجدات المرحلة قراءة جيدة وأعدنا صياغة إستراتيجية ميدان الأعمال وفقاً لذك.
ولذا فإن السؤال المطروح هنا هو كيف يرى القائمون على الرؤية هذه المستجدات الرديكالية؟ وهل يقرأ المبادرون والمبادرات هذه المتغيرات؟ وكيف ترى شركاتنا المستقبل الاقتصادي في المدى القريب والبعيد؟ هل هناك من تصور عن التحديات المستقبلية؟ وأين تكمن الفرص؟ وكيف يمكن استثمارها؟ وما الذي يمكن عمله للتعامل مع التحولات الحالية وللاستعداد للقادم؟ أسئلة عديدة وهامة تطرحها مستجدات الفترة ومعطياتها. ربما نخسر الكثير إذا لم نعمل من الآن على طرح تصور واضح يجيب على تلك التساؤلات وغيرها. لعل ذلك يساعدنا بتوفيق الله على اتخاذ خطوات جادة وعملية وسريعة.
خلاصة القول هو أننا بحاجة ماسة وعاجلة إلى قراءة مهنية لمستجدات المرحلة ومن ثم إعادة هيكلة قطاع الأعمال بشكل جذري يأخذ في الاعتبار مستجدات الفترة وتحدياتها وفرصها.. فهل إلى ذلك من سبيل؟.