حسن اليمني
تبقى الأخلاق هي المنظر الرئيسي والأساسي لماهية الإنسان وقيمته مهما اعتنق أو تشكل أو ترسم بفكر أو معتقد، ومهما ارتقى وتعلى بجاه أو علم أو مركز.. ومن أقسى ما نواجه نحن المسلمين تلك المقولة التي نستشعر الألم حين نحتاج إلى استحضارها، وهي (إسلام بلا مسلمين). وفي اعتقادي إننا في حاجة إلى علم الأخلاق الإنساني.
من السخرية أن ترى المصلين في صف منتظم بينما أحذيتهم متراكمة عند مدخل المسجد.. ومن السخرية أن ترى السماحة والسمو بين الخارجين من المسجد حتى يدلف كل منهم داخل عربته فيتغير السمو والسماحة إلى عنترية وتنافر.. ومن السخرية أن ترى الجميع في المجلس يتحدثون عن النظام وحسن القيادة ثم يدلف كل منهم إلى مركبته ليسير بها وكأنه يقود حمارًا..! والأمثلة كثيرة، ولكن من السخرية أيضًا أن نمتعض من هذه السطور، ونستشعر الملل والتفاهة لما نعرفه ونعيشه بشكل مستمر حتى وصلنا إلى مرحلة نسخر فيها من التذكير بما أصبح رسمًا لسلوكنا وأبجدياته المعتادة.
إنَّ التناقض بين تعاليم وأخلاق ديننا الحنيف وأخلاق سلوكنا المتعب لا يقتصر على فرد أو حتى قلة من العامة؛ لنصفها بالجهل أو سوء التربية، ولكنه أشبه ما يكون بالسلوك العام للإنسان في مجتمعنا، سواء مواطنًا أو مسؤولاً، صغر أو كبر. وإن مواجهة هذا القول بالامتعاض أو الاستنكار لا تعني في واقع الأمر إلا هروبًا أو عجزًا عن مواجهة الحقيقة، بل إنني أعتقد أن جنوح البعض نحو الإجرام أو الإرهاب أو الغطرسة إنما يتأتى من غياب منهج الأخلاق في تعليمنا، خاصة المراحل الأولية منه.
إن فراغ التعليم من العلوم الفلسفية، كعلم المنطق وعلم الأخلاق، يخلق فجوة بين العلم المعرفي وإنسانيتنا؛ فصرنا مستهلكًا نهم بشكل أخذنا إلى التباهي حتى بالجهل والتبلد، وإن نحا ذوو الفكر والعقل فينا إلى جلد الذات تعبيرًا عن الأسى والعجز.. ويكفي أن نذكر بأن أفضل المسلسلات المحلية التي يتسابق فيها أشباه الفنانين لتقديمها لنا في كل رمضان لا تخرج عن نطاق التباهي بالجهل والتبلد؛ لنضحك على أنفسنا في صورة موجعة، لا يحسها إلا من أدرك باطنها وخفاياها.
لقد تمت محاربة الفلسفة والمنطق منذ عهد بعيد بحجة حماية الدين من العقل البشري، ويمثل ذلك كتابان لعلمين بارزين من العهد العباسي، هما (تهافت الفلاسفة) لأبي حامد الغزالي و(تهافت التهافت) لابن رشد. ومن ذلك العهد (نهاية القرن الخامس الهجري) تلاشت الهمم في معرفة المنطق والفلسفة، وغلب التدين بأشكاله المختلفة بين التطرف والغلو والانحراف والخرافات. وحين أقول التدين فلا أقصد الدين، ولكن أقصد الانغلاق في دائرة مغلقة متدحرجة من السلف إلى الخلف دون إشغال الفكر والعقل في تجديد الفهم وتصحيحه بما يستجد مع تجدد العصور وتقدم الإنسان.
وفي راهن الوقت، ومع خروج الإرهاب والانحطاط، خرج من يريد إعادة الزمن إلى الوراء في جانب، ومن يرغب في نسف التاريخ والتخلق من جديد في جانب آخر، وبات أصحاب العقول في حيرة. وما كان ذلك كله في ظني إلا لغياب علم المنطق وعلم الأخلاق من مناهجنا الابتدائية والمتوسطة والثانوية إلا بشذر من العناوين التي أخفيت في ثنايا البلاغة والأدب، فتجرأ البعض منا - وبكل أسف - على الدين ذاته حتى وصل الحال إلى أن يلتصق وصف الإرهاب بالإسلام، وعلى ألسنة القريب والبعيد؛ ما يجعلنا اليوم في أمسّ الحاجة لإدخال مناهج علم المنطق وعلم الأخلاق لمدارسنا؛ لننشئ جيلاً إنسانيًّا، ينسجم مع أناس عصره بمختلف معتقداتهم وثقافاتهم، بل يشارك وينتج بعقل وفكر إنساني بعقيدة سامية خالية من الغلو والانحراف.. سلوك متحضر نشط وفعَّال.
إنَّ من أهم المهام المناطة بالتعليم هي تنشئة الأجيال بعقل وفكر سليم، نشط وفعّال؛ ليتمكن من العمل والإنتاج بعيدًا عن الترغيب والترهيب وتلقين العلوم بدون قاعدة فكرية، تستطيع احتواء هذا العلم، وتدرك قيمته؛ ذلك أن الأخلاق والسلوك القويم هو إنساني في أسه وأساسه، وأن خيرية الأمة الإسلامية تظهر في أخلاقها وسلوكها الإنساني النبيل الجاذب.