د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
- تأخر في منامه قليلًا لمتابعة مباراة كروية مهمة، وكعادته فقد ختم يومه ببضعة أسطر - عبر صفحته الرقمية - حلَّلت مجريات اللعبة ودورَ التحكيم وشغبَ الجماهير، وحين استيقظ صباحًا وجد أن كوريا الشمالية قد أطلقت صاروخًا تجريبيًا فأنشأ أسطرًا حول الاحتمالات الخطرة لمثل هذا العمل في شبه الجزيرة الكورية وتوقعات تأثيره على خطوط الملاحة الدولية، وحين أخبره صديقه أنّ حفلًا فنيًا سيقام بعد يومين وأنه قد اشترى تذكرتين لهما أشاد من مكتبه بالفنان الكبير ودوره التنويري، ولم ينس سوق الأسهم الذي افتُتح على انخفاض فأسف وانتهى بارتفاع فعزف، وكتب عن الركود العقاري وزحام الشوارع وإفطار صائم وعمرة رمضان والتأمين الطبي وجائزة بوكر ودور المجالس البلدية وانتخابات الأندية الأدبية وتخصيب اليورانيوم وأين تقضي إجازة الصيف، ولم يكتمل اليوم حتى ملأ ما يعادل صفحات تحدث فيها عن شؤون محلية وعربية وإقليمية، كما تداخل فشكر وشتم وحظر واحتقر وأشاد وأعاد.
- صار الخلط مبتدأً والهذرُ خبرًا، وتعاظم المفتون في كل شأن والمتداخلون مع أيِّ قضية والقافون دون علم ومُصادرو الوعي والتميز ومزاحمو الاتزان والتخصص ، فهل نحن بخير ؟ وبعد سنين سنرى أننا ما نزال ننقصُ حيث شئنا أن ننكص.
- فاضت المعلومات حتى غدت طوفانًا يجرف ويحرف ، وتعدد الرواة والحواة فلم نعد قادرين على متابعة الجديد أو انتقاء المفيد، وتهنا بين أمواجها؛ إذ لا شيء يحكمه رأيٌ واحد أو رؤيةٌ متزنة؛ فالعالَم اليوم زجاجي يشف عما فيه من ألوانٍ متنافرة وأهواء متضادة وأدلجاتٍ متصارعة وحساباتٍ وسياساتٍ ومصالح تجعلنا لا نعلم : من نحن ولا : إلى أين نسير.
- السيئ هنا حين ترى كل شيء ثم لا تستفيد شيئًا ولا تستطيع فعل شيء، والأسوأُ عندما تنام بحال وتصحو على حال؛ فإذا ما افترضتَه مقرًا صار ممرًا ، وما ظننته مبدأً انتقض إلى سراب.
- ودون النظر إلى الآراء المختلفة في التعددية الفقهية فقد كان السلف وتابعوهم يوصون بعدم استفتاء أكثر من فقيه حسمًا للجدل المتقد داخل الذات المستشرفة للرؤى الأكثر تيسيرًا، وبعدما صارت الفتاوى قاب لمسة زرٍ أو أدنى اكتشفنا الحكمة خلف طلب الاكتفاء دون أن يعني ذلك الانكفاء؛ فالحسم في قضية ذات أبعاد أهدأُ للنفس الباحثة عن الاطمئنان لا الراكضة خلف الافتتان.
- يبدو أن قدر هذا الجيل الحيرةُ والتردد والتلقي السريع والتحول الأسرع ، وهو ما يعني غياب التأصيل منهجًا والقدوة تمثلًا والهدوءِ مسلكًا؛ فإذا كثر الاعتراض والافتراض، وازداد القائلون والمتقولون، وندر المبدعون وتضاعف المدَّعون، وصار رقم التابعين هاجسًا وتملُّق الجماهير مركبًا، وأصبحت الحاشية متنًا والمتونُ هوامش، فلننع الثرثرة التي لا تلد والمعلومات التي لا تُدقق والحكايات التي تشبه الأساطير وليس فيها حكمتُها.
- المعلومة وحلٌ وحل.