د. محمد عبدالله العوين
كيف كنا قبل أربعين عاما؟ وكيف أصبحنا؟ ففي مثل هذه الأيام المباركة من رمضان عام 1393هـ توحدت الأمة العربية من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها في معركة استرداد الكرامة العربية بعد نكسة 1967م المريرة؛ بل لنقل ونعترف الآن بأنها كانت هزيمة نكراء أمام الكيان الإسرائيلي المغتصب، وليست نكسة عابرة لخطأ عارض أو سوء تقدير للأمور العسكرية.
في مثل هذه الأيام اجتمعت الأمة العربية كلها -مع تسجيل خيانة حافظ أسد- على كلمة واحدة ألا معركة سوى معركة العبور والانتصار واسترداد الكرامة، فكان الجيش المصري الباسل في طليعة مواجهة العدو على الجبهة المصرية في سيناء ومعه الجيش الأردني والعراقي والسوري في الجانب الآخر، وكانت المملكة بقيادة الملك فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله- مع الرئيس أنور السادات في غرفة عمليات مشتركة قبل الحرب وفي أثنائها وبعدها بكل إمكاناتها المالية ودعمها العسكري ودعوات أبنائها بالنصر لجيوش العرب التي تقاتل على جبهتين.
لقد كانت الإذاعة سيدة الموقف، فلم يصل العالم حينذاك إلى البث الفضائي التلفزيوني بعد؛ كان الراديو في كل يد، وصوت البيانات العسكرية والأغاني الوطنية العربية وأخبار المعارك والطائرات التي تسقط والتقدم الذي يحققه الجيش المصري حديث المجالس واللقاءات والهم الوحيد المهيمن على تفكير الناس، فلم يلتق أحد بأحد إلا والسؤال الأول قبل السلام والكلام: ما أخبار المعركة؟!
كنت وقتها طالبا في السنة الثالثة المتوسطة، وكان الرطب في غاية استوائه ونضجه، فلم نكن نكتفي بشراء ما يلزمنا مما يعرض منه في السوق؛ بل اشترى الوالد -رحمه الله- نخلة كاملة أو نخلتين من مزرعة قريبة لا تبعد عن البيت إلا كيلومترات تسمى «البطين» وكنت أنا من «يخرف» التمر من النخلة متوسطة الطول، ولكن أخبار المعركة المتوالية من مختلف إذاعات العالم لا تتوقف، وعلى الأخص الإذاعات القوية التي كنا نسمعها عصرا بوضوح؛ كإذاعة الرياض والكويت وقطر، وفي الليل إذاعة لندن «BBC» فما كنت أستطيع النزول لخرف الرطب من سيارة «اللاندروفر» التي اشتراها الوالد بثمن بخس للقنص إلا بعد تنقل متتابع متوتر بين الإذاعات، ويا طالما انتشيت لسقوط طائرة للعدو وتقدم على الجبهة المصرية نحو خط بارليف الذي لا يقهر -كما تقول إسرائيل- فأصفق وحدي وأغني كالمجنون؛ بل أرقص طربا وأتلفت من حولي يمنة ويسرة في المزرعة الصامتة عصرا باحثا عمن يساعدني على الغناء والانتشاء والرقص، الله أكبر، ما أجمل لحظات الشعور بالعزة والقوة واجتماع الكلمة، ما أكرمها من أيام، وما أسعدها من تعابير وما ألطفها وأرقها من كلمات عربية إسلامية عظيمة تصور احتشاد واجتماع وتوحد الأمة العربية على كلمة واحدة وموقف واحد!
لقد انتصر العرب والمسلمون في تلك المعركة العظيمة؛ معركة العبور التي ربما تشبه إلى حد كبير معركة «حطين» التي قادها البطل الكردي المسلم صلاح الدين الأيوبي ضد الصليبيين سنة 584هـ أو معركة القائد المملوكي قطز في «عين جالوت» 658هـ في الخامس والعشرين من رمضان ضد التتار.
لقد مضى ما يقرب من أربعين عاما على ذلك الانتصار الرمضاني العظيم، ورأى من رأى من مخططي المواجهة أوالصدام مع العرب والمسلمين بأن اجتماعهم ذاك الذي تم واتفاقهم ذاك الذي تجلى في أبهى وأجمل صورة بتضامن وتكامل في المواقف السياسية والبترولية والعسكرية بين القائدين الكبيرين الملك فيصل وأنور السادات -رحمها الله- سيكون عقبة في أمن إسرائيل، وربما يكون بداية لقيام وحدة عربية شاملة تعيد بناء الحضارة العربية الإسلامية؛ فرسمت خططا لئيمة جديدة للتفريق والتمزيق!
أربعون عاما على الانتصار في رمضان 1393هـ واليوم كيف هي حال العرب بعد تلك الوحدة في الموقف والكلمة؟!
كان عدوا واحدا هو إسرائيل؛ فتكاثر حتى أصبح أعداء!
وكان عميلا خائنا واحدا هو حافظ؛ فتكاثر حتى أصبح خونة!